اخر الاخبار

شريعة الصيام

الصيام شريعة رفيعة القدر، عظيمة الأجر، تذكّر الإنسان بنسبه السماوي، وأصله الروحاني، أليس الإنسان نفخة من روح الله الأعلى، وقبسا من نوره الأسنى؟ بلى إنه كذلك، ولكنه ينسى، وتغلبه طبيعة الحمأ المسنون، فيجيء شهر الصيام ليقول للإنسان اضبط شهواتك، واجعل غرائزك تُقاد ولا تقودك، واجعلها تحت هيمنة الفكر الرشيد والتصرف السديد.

 الصيام الذي شرعه الله يُحاط بجوّ نقي من الأدب، أدب الصمت الذي يجعل الإنسان لا يخوض في النواحي الجنسية، وهو ما يسمى بالرفث، ويجعل الإنسان يلوذ بأدب الصمت في النواحي الأخرى، فيبتعد عن الثرثرة واللغو والمجون، ويجعل الإنسان يُؤثِر الصفح والسماحة، فإذا شاجره أحد أو خاصمه أبَى أن يستجيب لنوازع الشيطان ونوازع الشر: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} الإسراء:53.

وهذا معنى الحديث القدسي: “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو شاتمه، فليتذكر الحال التي رفعه الله إليها وليقل: “إني صائم، إني صائم” أخرجه البخاري ومسلم، والصيام على هذا النحو كما وصفنا عبادة رفيعة القدر، عظيمة الأجر، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى اسمه في الحديث القدسي: “الصوم لي وأنا أجزي به” متفق عليه، لكن هناك فرقا بين الصوم الذي شرعه الله والصوم الذي يؤدّيه المسلمون الآن، ونحن لا نتفلسف بل نواجه أمتنا بالأمر الواقع، ونريد منها أن تجيب في صراحة، هل هذا الشهر شهر الصيام، أم شهر طعام؟ إذا كان الإنسان خلال السنة يدخل جوفه ثلاثة كيلوغرامات من الأطعمة والأشربة، ثم جاء شهر رمضان، فإذا هو يجوع كثيرا ويعطش كثيرا ليأكل كثيرا ويشرب كثيرا، فإذا الذي يدخل بطنه أربعة كيلوغرامات من الأطعمة والأشربة، أو ثلاثة كيلوغرامات ونصف مثلا، هل يعتبر الرجل قد صام وهو قد زاد في القدر الذي يدخله في جوفه عما يقع له طول السنة؟ وفرضنا جدلا أن القدر الذي دخل جوفه في رمضان هو القدر الذي كان يدخل جوفه طوال السنة، فما معنى الصيام؟ إنه شهر عادي، لكن الذي يحدث أن المسلمين فعلا استطاعوا أن يجمعوا أو أن يوفّقوا بين رغباتهم في أمور كثيرة، وبين ما شرع الله من الصيام، كان المفروض فيه أن يجنح الإنسان إلى شطره الأعلى وخصائصه السماوية، ويقيم هُدنة مؤقتة مع معركة الخبز التي تنتشر في المشارق والمغارب، والتي تدور رحاها بين الناس فلا تنتهي لها ضجة، الناس تخدم الآن أجسامها بقدرة ورغبة.

نحن لا نعلن حربا على الجسد، ولكن لا نريد أن يكون الإنسان عبدا لجسده، ولا خادما لشهواته، ولا محبوسا في مصيدة الغرائز الدنيا التي احتبس الناس فيها، والتي أغرتهم الحضارة الحديثة بأن لا يتجاوزوها، وهذا خطأ.

هناك شيء أريد أن أشرحه وهو القدرة على الامتناع، ما معنى القدرة على الامتناع؟ القدرة على الامتناع أن أشتهي شيئا، فإذا ذهبت إلى السوق فوجدته غاليا، وازنتُ بين قدرتي وبين شهوتي النفسية، ثم قلت: لا ضرورة لشراء هذا الشيء فهو غال، وأقول كما قال الرجل الصالح قديما: “إذا غلا الشيء أرخصته بالترك”، فيكون أرخص ما يكون إذا غلا، هل أمتنا تستطيع أن تقول: إنها في معركة الامتناع عن الشيء أو القدرة على الامتناع عن رغبة من الرغبات؟ هل تستطيع أمتنا أن تقول: إنها نجحت في هذه المعركة؟

أنا أعرف أمة نجحت، أعرف أن الهند عندما قاتله إنجلترا قديما لكي تنال استقلالها وضع لها زعيمها غاندي معركة ما قلناه، معركة القدرة على الامتناع، السلع الأوروبية جميلة، النسيج الذي تصنعه الآلات ناعم طري، أما الغزل باليد ونسيج المغزولات اليدوية فخشن، لكن الرجل غاندي قال لأمته: “لا نريد من المستعمرين شيئا، دعوا كل ما يقدمون من سلع براقة، ومن أدوات ومنسوجات ومخترعات، دعوا هذا لهم، ولنعِش في حدود طاقتنا وإمكاناتنا”، فكانت النتيجة أن الرجل أحرز للهند استقلالها؛ لأن مصانع إنجلترا توقفت عن الإنتاج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *