أمد/ منذ عقود، لم تغب إسرائيل عن المشهد السوري، لكن حضورها ظل يُدار من خلف ستار أمني أو عبر ضربات محدودة تندرج في ما يسمى بـالمعركة بين الحروب.

أما اليوم، فالمعادلة تتغير: إسرائيل باتت لاعبًا مباشرًا في الداخل السوري، عسكريًا ونفسيًا وسياسيًا، دون مواربة، وفي ظل عجز أو اكتفاء دبلوماسي من دمشق.

في السويداء، على مبنى حكومي، رُفع اليوم العلم الإسرائيلي لأول مرة في وضح النهار، وسط ذهول شعبي، وفي ذات الوقت، توسّعت الضربات الجوية الإسرائيلية لتطال قلب العاصمة دمشق، وتحديدًا ساحة الأمويين، في رسالة بالغة الوضوح: لا خطوط حمراء بعد اليوم، ولا حواجز نفسية أو سياسية أمام تعميق الهيمنة.

فما الذي تريده إسرائيل من سوريا؟ وما هي أبعاد هذا التصعيد غير المسبوق؟

يبدو أنها تريد إعادة صياغة المشهد السوري من بوابة الفراغ السيادي الذي تعاني منه الدولة السورية منذ اندلاع الأحداث في سوريا عام 2011 م والى الآن.

تستثمر إسرائيل اليوم في حالة الانهاك والانقسام السوري لتكريس سوريا كدولة فاشلة، أو كيان وظيفي هش، يؤمّن حدودها، ولا يشكّل أي تهديد مستقبلي لها.

فمنذ صعود القيادة الجديدة في دمشق، بقيادة “أحمد الشرع”، لم تُسجل مواقف سياسية صريحة تجاه الاحتلال أو قضية الجولان، رغم أن رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية قد أصدرتا بيانات رسمية في الآونة الأخيرة تدين الغارات الإسرائيلية بوصفها “تصعيدًا خطيرًا” و”انتهاكًا للسيادة السورية”.

لكن هذه البيانات، رغم لغتها القوية، لم تُترجم إلى أي رد فعلي ميداني أو سياسي جوهري، ما أفرغها من مضمون الردع أو التأثير.

السويداء نموذجًا الإختبار للتفكيك الطائفي المدروس، ما جرى في السويداء من رفع العلم الإسرائيلي على مبنى حكومي اليوم ليس حادثًا عابرًا. إنه اختبار رمزي مزدوج:

اختبار لردّة الفعل السورية الداخلية، التي أتت ضعيفة ومتباينة؛ واختبار لإمكانية تمرير نفوذ إسرائيلي غير مباشر في مناطق تعاني من تهميش مزمن.

إن إسرائيل تسعى لتكريس “مناطق عازلة” داخل الدولة السورية، سواء في الجنوب أو الشمال، تحت ذرائع الأمن أو الحماية للأقليات، وهو ما يعيد إلى الأذهان تجربتها في جنوب لبنان، عندما شكّلت جيشًا عميلًا بقيادة أنطوان لحد من عناصر مسيحية، وكرّسته كذراع أمنية للاحتلال لعقود، تحت شعار (حماية المجتمعات المهمّشة).

واليوم، تُعيد إسرائيل المحاولة ذاتها، بأساليب ناعمة، في بيئة سورية منهكة سياسيًا واجتماعيًا.

كما تسعى إسرائيل إلى منع سوريا من العودة إلى محور المقاومة بأي ثمن، ترى إسرائيل أن لحظة الضعف الراهنة في سوريا يجب أن تُستغل استراتيجيًا، ليس فقط لتحجيم النفوذ الإيراني، بل لإخراج سوريا نهائيًا من أي محور معادٍ لإسرائيل.

ومع تراجع الدور الإيراني، وصعود التشكيلات السلفية المدعومة إقليميًا، تسعى إسرائيل لتثبيت معادلة جديدة: سوريا المحايدة أفضل من سوريا المقاومة، حتى لو كان هذا “الحياد” يتم بالرضا أو بالإكراه السياسي.

لقد أصبحت دمشق تحت النار… ولا خطوط حمراء، إن الضربة الجوية الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت ساحة الأمويين اليوم ليست فقط تصعيدًا عسكريًا، بل رسالة استراتيجية بامتياز.

إنها تقول: لا مكان محصنًا في دمشق… لا سيادة لكم هنا.

ورغم الإدانات الرسمية، فإن الرد العملي غائب، كما الغياب التام للمبادرة السياسية السورية في الدفاع عن ثوابتها التاريخية، وأولها الجولان وفلسطين.

فهل تكفي الإدانة؟ أم أنها تواطؤ بالصمت؟

صحيح أن رئاسة الجمهورية السورية ووزارة الخارجية أصدرتا بيانات تدين الغارات الإسرائيلية، وتصفها بأنها “انتهاك صارخ” و”تصعيد خطير”، لكن غياب الرد الفعلي، سياسيًا أو عسكريًا أو حتى إعلاميًا تعبويًا، أثار شكوكًا متزايدة في نوايا السلطة الجديدة، ومدى استعدادها لتجاوز هذه الاعتداءات ضمن صفقة إقليمية أو تفاهمات غير معلنة.

إلى أين تتجه سوريا، القلق الحقيقي لم يعد من القصف وحده، بل من انحسار مشروع الدولة ذاتها، ومن القبول الضمني بواقع الاحتلال والتفكك الطائفي، تحت شعارات الواقعية السياسية أو السلام الإقليمي.

الدور الإسرائيلي في سوريا لم يعد يُدار من خلف الستار، بل بات جزءًا من إعادة تشكيل المشهد السوري.

وبينما تتكلم البيانات الرسمية، تصمت الأرض. وبينما تُنتهك السيادة، يبقى الجولان خارج الحسابات، وفلسطين خارج الخطاب.

ما يحدث في سوريا اليوم ليس مجرد تصعيد عسكري، بل معركة على تعريف الدولة السورية ومكانتها ووظيفتها الإقليمية.

والصمت عنها، أو الاكتفاء بالإدانة، هو تواطؤ بطيء في تحويل سوريا إلى هامش في خرائط الآخرين.

شاركها.