سنـن الله غلاّبة.. لا تتبدّل ولا تتحوّل!
إن القرآن العظيم يؤسس فيما يؤسس له للتفكير السليم، والوعي الصحيح. والمسلم الذي يداوم على تلاوة القرآن الكريم كما هو مطلوب منه: {.. ورتلِ القرآن ترتيلا}، {.. وأُمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن..}، لا شك ستترسخ في فكره ووجدانه معان جليلة، وستنغرس في نفسه وعقله قيم نبيلة، وستتكون لديه معايير وقوانين قويمة، وتتربى نفسه على فقه سنن الله تعالى في الآفاق والأنفس، هذا الفقه الهام الذي اختل عند كثير من المسلمين، بل انعدم وانهدم!.
رغم أن القرآن العظيم حافل بالآيات المصرحة بأهميته المقررة لمضمونه، ناهيك عن الآيات الملمحة إلى معانيه ومغانيه، من قول الله جلت قدرته: {… فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} فاطر:43، {سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا} الإسراء:77، {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} الأحزاب:62، {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} الفتح:23. والسنة هي الطريقة والسيرة والقاعدة والقانون. هذا معناها اللغوي. والمقصود بها هنا القوانين التي تحكم الحياة عامة.
إن الأمور لا تمضي في الناس جزافا؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثا؛ فهناك نواميس وسنن وقوانين ثابتة تتحقق، لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير. والقرآن يؤكد على هذه الحقيقة بتكرارها، تعليما للناس، كي لا ينظروا الأحداث فرادى، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة. محصورين في فترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان. ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة، وسنن الوجود، فيوجههم دائما إلى ثبات السنن واطراد قوانينها. ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد قوانينها في الحاضر والمستقبل؛ لأن الأعمال والخطط والبرامج والمشاريع والأفكار لن تنجح ولن تتحقق نتائجها أبدا إلا إذا كانت وفق سنن الله سارية، وعلى قوانينه جارية.
ومن الجهل والخسار مصادمة نواميس الكون وإغفال قوانين الله وهي تتميز بخصائص ومميزات ملخصها ما يلي: أنها ثابتة مستقرة، فهي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول. وهي أيضا دائمة مستمرة، لا يؤثر عليها مرور الأزمان وتعاقب السنون والقرون. وهي كذلك غلابة قاهرة، لا تحابي أحدا ولا يخرج عن حكمها أحد ولا يعطلها أحد. وهي مع ذلك عامة شاملة، شاملة في المكان والأقوام كما هي شاملة في الأزمان والأوقات. فالواجب أن نغالبها، ونستخدمها، ونحول تيارها، ونستعين ببعضها على بعض، ولن يكون ذلك إلا بفقهها والعلم بها.
يقول الإمام المجدد ابن باديس رحمه الله تعالى: “ولله سنن نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء. من أخذ بنوع من تلك السنن بلغت وبلغ بها إلى ما قدر له من عز وذل وسعادة وشقاء وشدة ورخاء. وكل محاولة لصدها عن غايتها وهو آخذ بها مقضي عليها بالفشل. سنة الله، ومن ذا يبدلها أو يحولها؟: {فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحوِيلا}”.
وكمثال لهذا المقال ما نلمسه فينا معشر الجزائريين وربما المسلمين كافة من حلم بانصلاح الحال، وتمنٍ لتحسن الأوضاع، ورغبة في تطور بلدنا وبلوغه ما بلغته كثير من الأمم تطورا ماديا ورفاهية، ولكن هذه الآمال العراض نريد تحققها في أقصر وقت ممكن، والأهم من ذلك دون أن نغير من أنفسنا شيئا، بل دون أن نسعى إلى تغيير شيء في أنفسنا!، في تفكيرنا!، في عملنا!، في إدارتنا!، في قناعاتنا!، في مجتمعنا!، في ذهنياتنا!، في سلوكنا!… إلخ!. وهذا أعجب العجب أن ننتظر نتائج إيجابية كبيرة، أو نتائج مبهرة دون بذل، ودون تغيير، ودون تضحية وعمل!. رغم أنني أزعم أن جميع المسلمين وطبعا جميع الجزائريين يحفظون قول الله تقدست أسماؤه: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. وهي صريحة واضحة لا تحتاج إلى شرح وتوضيح، وإن كنا نحتاج إلى التذكير بها وبمدلولها، يقول الأستاذ بن نبي طيب الله ذكره: “لا يستطيع مسلم أو غير مسلم أن يغير ما حوله إن لم يغير أولا ما بنفسه، فهذه حقيقة علمية يجب أن نتصورها قانونا إنسانيا وضعه الله عز وجل في القرآن، سنة من سنن الله التي تسير عليها حياة البشر. إذن لكي يتحقق التغيير في محيطنا يجب أن يتحقق أولا في أنفسنا”.
وأول خطوة في هذا السبيل أن نعلم ونؤمن ونفقه أن لله سننا في كونه تحكم مجرى الحياة وهي سنن غلابة يجب أن نراعيها ونداريها ونغالب بعضها ببعض حتى نحقق الإصلاح المطلوب، ونبلغ الحال المرغوب، وننعم بالنجح المحبوب.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة