أمد/ يصل إلى بيروت رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء حسن رشاد، في زيارةٍ تحمل دلالات سياسية وأمنية عميقة، في لحظة يتأرجح فيها لبنان بين احتمال الحرب الشاملة ورهان الوساطات.

الزيارة التي تأتي ضمن إطار التنسيق الأمني والسياسي بين القاهرة وبيروت، كما أكّد السفير المصري في لبنان، ليست حدثًا بروتوكوليًا فحسب، بل رسالة من مصر إلى المنطقة: أن الغياب الطويل انتهى، وأن القاهرة تعود إلى خطوط التماس الإقليمي كـ وسيطٍ نزيهٍ وفاعلٍ، يوازن بين العقلانية والمصلحة العربية.

من عبد الناصر إلى اليوم: تاريخ الدور المصري في الشرق الأوسط

منذ خمسينيات القرن الماضي، كانت مصر بوصلة المنطقة، ومختبر التحولات الكبرى في العالم العربي.

في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، تكرّست القاهرة مركزًا للقرار العربي، وقاعدةً لحركات التحرّر من الاستعمار. دعم عبد الناصر القضية الفلسطينية ولبنان كجبهة مواجهة مع إسرائيل، وسعى لتوحيد الصف العربي تحت شعار “الوحدة والمصير المشترك”.

ورغم أن الحلم الوحدوي واجه تعقيدات سياسية لاحقة، إلا أنّه أسّس لمكانة مصر كـ دولة ضميرٍ عربيّ تمتلك شرعيةً معنوية تتجاوز حدود الجغرافيا.

ثم جاء عهد الرئيس أنور السادات الذي نقل مصر من منطق الثورة إلى منطق الدولة، فخاض حرب أكتوبر 1973 التي أعادت للعرب توازن الكرامة، ثم أطلق الدبلوماسية الواقعية باتفاقية كامب ديفيد، ليكرّس مبدأ أن السلام ليس تنازلًا بل إدارة ذكية للقوة.

هذا التحوّل جعل من مصر مركزًا لوساطاتٍ إقليمية معقّدة، من النزاع العربيالإسرائيلي إلى ملفات لبنان وغزة واليمن والسودان.

القاهرة اليوم: عودة القوة الهادئة

في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد الأزمات من غزة إلى الجنوب اللبناني، برزت مصر مجددًا كـ قوة إقليمية متوازنة تمتلك القدرة على التحدث إلى جميع الأطراف دون عداءٍ أو انحيازٍ أيديولوجي.

وتأتي زيارة اللواء حسن رشاد إلى بيروت في هذا السياق، لتعيد تفعيل قنوات التواصل المصرياللبناني، وتضع مصر في موقع الوسيط الضامن لاستقرار لبنان ومنع انزلاقه إلى الحرب.

القاهرة تُدرك أنّ أيّ تفجّر عسكري على الحدود الجنوبية سيُهدّد الأمن الإقليمي بأكمله، ولذلك تُصرّ على دعم مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، وهو ما يتوافق مع القرارات الدولية والاتجاه العربي العام.

وتشير مصادر دبلوماسية إلى أنّ اللواء رشاد يحمل رسائل عربية ودولية حساسة إلى القيادة اللبنانية، تتمحور حول آليات خفض التصعيد وضمان الالتزام بالقرار 1701، وربما بحث إمكانية دور مصري مباشر في الوساطة بين بيروت وتل أبيب.

لبنان بين معادلتين: الدولة أو الميدان

يأتي التحرّك المصري في وقتٍ يشهد فيه لبنان انقسامًا حادًا بين من يدعون إلى احتكار السلاح بيد الدولة، ومن يرون أن المقاومة تبقى “ضرورة دفاعية”.

وفي ظلّ هذا التناقض البنيوي، تلعب القاهرة دورًا مزدوجًا: فهي تدعم الشرعية اللبنانية ومؤسساتها، وفي الوقت ذاته تُدرك حساسية التوازن الطائفي والسياسي في البلاد، فلا تتدخل إلا بما يضمن الاستقرار من دون المساس بالسيادة.

إنّ هذه المقاربة الواقعية تذكّر بالدبلوماسية المصرية في عهد حسني مبارك، التي اتسمت بـ”الهدوء المتحكّم”، القادرة على جمع الفرقاء من دون افتعال ضوضاء إعلامية.

فمصر لا تسعى إلى فرض أجندة، بل إلى إعادة هندسة التوازنات بما يجنّب المنطقة انفجارًا جديدًا، خصوصًا أن حربًا في لبنان اليوم ستشعل النيران على أكثر من جبهة، وتُربك معادلات البحر الأحمر وغزة وسوريا والعراق.

من الوساطة إلى إعادة صياغة النظام الإقليمي

إنّ عودة مصر إلى بيروت ليست حدثًا منعزلًا، بل جزء من تحوّل استراتيجي في الرؤية المصرية الجديدة للشرق الأوسط.

القاهرة تعي أن النظام الإقليمي يعيش مرحلة تفكك، وأن غياب الدور العربي ترك فراغًا ملأته قوى غير عربية — من إيران إلى تركيا وإسرائيل.

لذلك، تعمل مصر على استعادة زمام المبادرة العربية، عبر وساطاتٍ متوازنة في لبنان وغزة والسودان، تُعيد للعرب حضورهم كطرفٍ صانعٍ للتسويات، لا متفرّجٍ عليها.

ويُدرك المراقبون أنّ جهاز المخابرات العامة المصرية أصبح الذراع التنفيذية لهذه الدبلوماسية الهادئة؛ فهو يتحرّك بين العواصم بخبرة أمنية وسياسية تسمح له بفهم المشهد من الداخل، بعيدًا عن الشعارات، وقريبًا من الواقع الميداني والإنساني معًا.

الدبلوماسية بدلاً من السلاح

التحرّك المصري في لبنان يعبّر عن رؤيةٍ عربيةٍ متكاملة: أنّ تثبيت السلم الأهليّ مقدّم على أيّ حسابات سياسية أو فصائلية، وأن استقرار لبنان هو شرط لاستقرار المشرق كلّه.

إنّ القاهرة اليوم لا تقدّم نصائح فحسب، بل تعرض شراكة استراتيجية لبيروت في إعادة بناء مؤسسات الدولة وتعزيز التعاون الأمني، بما يضمن تطبيق القوانين الدولية وتحييد البلاد عن صراعات المحاور.

في زمنٍ تتسابق فيه القوى الإقليمية على النفوذ، تُذكّر مصر الجميع بأنّ النفوذ الحقيقي هو في القدرة على تهدئة النار لا إشعالها، وفي أن تُسمَع كلمتها في كلّ أزمة دون أن تطلق رصاصة واحدة.

مصر… حين تصمت البنادق ويعلو صوت الدولة

من عبد الناصر إلى السادات، ومن مفاوضات غزة إلى زيارات بيروت، يبقى الدور المصري وتراً ثابتًا في لحن الشرق الأوسط المتقلب.

إنّ القاهرة لا تعود إلى الساحة باندفاعٍ إعلاميّ، بل بخبرة التاريخ ومراكمة الثقة، وبقناعةٍ أن الشرق الأوسط لا يُدار بالصراخ، بل بالعقل.

ولعلّ زيارة اللواء حسن رشاد اليوم إلى لبنان تمثّل استكمالًا طبيعيًا لمسيرةٍ طويلةٍ من القيادة الإقليمية المصرية التي تعي أن بناء السلام أصعب من إشعال الحرب — لكنه وحده القادر على أن يكتب فصلًا جديدًا من الاستقرار في المنطقة.

شاركها.