زيارة عن زيارة بتفرِق (12)
![](https://alarabstyle.com/wp-content/uploads/2025/02/1739459650-3260-8.jpg)
أمد/ قمت في السنوات الأخيرة بمئات الزيارات لأسرى وأسيرات في سجون الاحتلال، وكان لكلّ زيارة مذاق آخر.
لكن اليوم قمت بزيارة غير شكل.
مشواري مع حسام زهدي شاهين طويل وعريض وشائك، وفي طريقي للقدس استوقفتني محطّات كثيرة منه.
التقيت بحسام للمرّة الأولى يوم الاثنين 20.06.2019 في سجن الجلبوع؛ بناءً على توصية صديقي المقدسي محمد صبيح، توطّدت العلاقة وزرته بعدها عدّة مرّات، في سجون الجلبوع وهداريم ومجيدو ونفحة الصحراوي ليعرّفني على خارطة الوطن.
تذكّرت رسالته إلى قمر في اللقاء الأول، وحين لقطت الصنّارة، وأكلنا الثمار معاً بعد أن تعمّدت “زغرودة الفنجان” في حيفا، والرأي الآخر الذي يشكّل صمام الأمان، ورحلة “رسائل إلى قمر” ووصولها إلى مخيم بلاطة، وخلط الأوراق من جديد. جاءني الخذلان والاغتراب، وكل زيارة كانت تحيينا من جديد.
حدّثني كثيراً عن الزمن في السجن؛ أكثر من زمن وأقّل من حياة.
تذكّرت وجعه حين افترقنا في لقائنا الأخير؛ تنهّد وقال لي: “آخ يا صديقي!” وحدّثني عن حُرقته وزملائه من المماطلة في إقامة مؤتمر أدب الحريّة “الاتحاد فلَمنا” في رام الله قائلاً: “آخ يا صديقي، قمّة الفرح الوفاء وقمّة الألم الخذلان”،
وها هو يتحرّر بصفقة الطوفان.
سمعت دويّ صرخة الحاجة آمنة “لا تخذلونا بفرحة تثلج صدورنا بحرية أبنائنا” وأمنيتها ككلّ أم أسير باحتضان ولدها حراً، كم حلمت بفرحةٍ تثلج صدرها، بحرية حسامها/ حسامنا لتحتضنه وتفرح به، لأن فرحتها في هذه الحياة بقيت منقوصة، وفارقت الحياة بغصّة (لروحها الرحمة والسكينة والسلام).
وها هي تكتمل الدائرة وتُغلق؛ انتظرني الصديق محمد صبيح في التلّة الفرنسيّة ليرافقني إلى السواحرة الشرقيّة لألتقي بحسام، تعابطنا طويلاً طويلاً طويلاً وتباوسنا دون زجاج مقيت ودون سجّان يراقبنا، في بيته وبين أهله والأصدقاء.
شعرت وكأنّي في حلم وغيبوبة، لم أصدّق لأول وهلة أنّ هذا حسام الذي عرفته فترة طويلة، والتقيته مرات عديدة في السجون بالسنوات الأخيرة، لكن حين همس في أذني بعضاً ممّا دار بيننا في تلك اللقاءات، وسألني عن زوجتي سميرة والبنات والأحفاد تأكّدت أنّه حسام، بلحمه (اللّي ظلّ منه) وشحمه، وأوصلته حينها سلامات وبوسات سميرة.
حدّثني عن وضع الأسرى في الأشهر الأخيرة ووجعه لفراق زملاء الأسر الذين بقوا هناك، وحين ذكر اسم الصديق عمار الزبن، وكان من آخر الأسرى الذين ودّعهم حين غادر سجن نفحة دون رجعة، اتصلتُ مباشرة مع زوجته وطمأنها حسام على صحّته بعد طول انقطاع، وحسرته على مصادرة ممتلكات الأسرى، وأشياء تخصّهم واكبتهم لسنوات، ومنها ألبوم صور رافقته وواسته عشرات سنين الأسر، وكتب تمّ حرقها في ساحة الفورة، وبالأخصّ مخطوطات كتاباتهم.
أوصلت له سلامات وتحيات فراس حج محمد، وعبد السلام صالح ورابطة الكتّاب الأردنيين، وصفاء أبو خضرة وصالح حمدوني، والهيثَمَين، وخالد عز الدين (صوت الأسير)، وغيرهم كُثُر.
أهديته كتب وإصدارات له فيها حصّة ونصيب؛ “الكتابة على ضوء شمعة” عوضاً عن النسخة التي صادرها السجّان، و”يوميات الزيارة والمزورمتنفس عبر القضبان”، و”ندوات أسرى يكتبون”، و”حروف على جدران الأمل كتابات خلف القضبان”، و”زهرات في قلب الجحيم”… و”على شرفة حيفا”.
رأيت الطمأنينة في عيون أخيه محمد، استراحة محارب انتصر للتوّ في معركة الحريّة، وأخته ريما، وأخيراً شاهدت البسمة التي عادت لمحيا أخته نسيم، ففي السنوات الأخيرة لازمتها نظرات ألم ووجع وحزن… وأمل، وها هي تحتضن حسامها بأريحيّة ودون حواجز، ونظراتها توحي بأنّها ما زالت تعيش الحلم، وما أحلاه من حلم يقظة.
ولجت مطبخ نسيم، برفقة حسامنا، لتحدّثنا عن طبخة الحريّة (ستكون لي وقفة قريبة معها).
وتبقى فرحة اللقاء والحريّة منقوصة حتّى نلتقي على شرفة الحريّة الحيفاويّة. وعد الحر دين يا حسام.
حين غادرنا السواحرة الشرقيّة أخذني صبيح ليعرّفني على حاجز الكونتينر السيئ الصيت وطريق واد النار، درب الآلام الجديد.
لم أعتد زيارة عائلات الأسرى والأسيرات؛ وكم ماطلت بتلبية دعوة الحاجة آمنة ونسيم لزيارتهن، ولم أعتد المشاركة بمهرجانات “التحرّر” والتقاط الصور برفقة من تحرّر ساعة تحرّره، ولكن لقائي بحسام مدّني بالأمل، رغم الغصّة والألم، وحثّني على إصراري لمتابعة مشروعي التواصلي مع أحرارنا حتّى تصفير كافّة السجون.
في طريق العودة دعاني صبيح لتحلاية مقدسيّة فباغتتني محادثة هاتفيّة من غزّة الصمود، من الأسير المحرّر محمد الحلبي ووالده، وكانت أحلى تحلاية.
آمل بحريّة قريبة لجميع أسرى الحريّة.
اعذرني غسّان؛ والله زيارة عن زيارة بتفرق.