أمد/ تشكل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى المنطقة، لحضور مراسم التوقيع على خطة وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في غزة في شرم الشيخ، حدثًا مفصليًا يحمل دلالات تتجاوز مشهد المصافحة والبروتوكول السياسي.

فالزيارة تُعيد طرح السؤال الجوهري: هل نحن أمام بداية مرحلة سلام حقيقي أم أمام صياغة جديدة لواقع سياسي مفروض بالقوة، عنوانه “إنهاء الحرب” ومضمونه “تثبيت السيطرة”؟

أولاً: توقيت الزيارة ومعانيه

يأتي حضور ترمب في لحظة تشهد فيها المنطقة فراغًا استراتيجيًا وتبدلاً في موازين القوى:

في واشنطن، يسعى ترمب لتثبيت حضوره الدولي مجددًا استعدادًا لعودته المحتملة إلى البيت الأبيض، مقدّمًا نفسه كصاحب الحل السحري القادر على وقف الحروب حيث فشل الآخرون.

في إسرائيل، يشكل حضوره دعمًا مباشرًا لبنيامين نتنياهو في لحظة ضعف غير مسبوقة، بعد إخفاقه في تحقيق أهداف الحرب وتآكل رصيده الشعبي والدولي.

وفي الإقليم، يُراد لشرم الشيخ أن تكون بوابة “إعادة ترتيب الشرق الأوسط” تحت المظلة الأمريكية، في مواجهة التمدد الصيني والروسي والإيراني المتصاعد.

ثانياً: شرم الشيخ… استعادة الدور المصري وتدويل الحل

اختيار شرم الشيخ كموقع لتوقيع الاتفاق ليس تفصيلًا بروتوكوليًا، بل يحمل رمزية سياسية واضحة:

مصر تعود إلى مركز الثقل كوسيط ضامن وركيزة استقرار إقليمي.

واشنطن تراهن على الدور المصري لإخراج الحرب من مأزقها الإنساني والسياسي، وفي الوقت ذاته لضبط الإيقاع العربي بما ينسجم مع مصالحها، مع إضعاف الدورين القطري والتركي اللذين تحركا بفعالية في وساطات الحرب.

ثالثاً: دعوة الرئيس محمود عباس… دلالات الحضور الفلسطيني

لفت الأنظار في هذا السياق دعوة الرئيس محمود عباس لحضور مراسم التوقيع في شرم الشيخ، وهي دعوة تحمل أبعادًا سياسية عميقة:

أولاً، هي اعتراف أمريكي ودولي بشرعية التمثيل الفلسطيني الرسمي، بعد محاولات تجاوز السلطة الوطنية في ملفات الحرب والوساطة.

ثانياً، هي محاولة لإضفاء “غطاء وطني” على الاتفاق كي لا يُتهم بأنه اتفاق مفروض خارجيًا أو موجّه ضد حماس فحسب.

ثالثاً، هي خطوة لاحتواء الموقف الفلسطيني الرسمي وإشراكه شكليًا في ترتيبات ما بعد الحرب، دون منحه بالضرورة دورًا فعليًا في صياغة مضمون الاتفاق أو ترتيبات الإعمار والأمن.

إن حضور الرئيس محمود عباس سيكون اختبارًا دقيقًا لمقدار ما تتيحه هذه المبادرة من مساحة سياسية حقيقية للقيادة الفلسطينية، وما إذا كانت واشنطن جادة في العودة إلى مسار سياسي متوازن، أم أنها تستخدم الشرعية الفلسطينية كغطاء لتمرير تسوية تندرج ضمن “صفقة القرن” المعدّلة.

رابعاً: ترمب و”السلام عبر الإعمار”

الزيارة تكشف عن محاولة أمريكية لإحياء فلسفة “السلام الاقتصادي” تحت مسمى جديد هو “السلام عبر الإعمار”.

الهدف الظاهري هو إعادة إعمار غزة، لكن الهدف الضمني هو نزع البعد السياسي عن الصراع الفلسطينيالإسرائيلي، وتحويل القضية من قضية تحرر وحقوق وطنية إلى ملف إنسانيإداري تديره أطراف إقليمية بإشراف أمريكي وإسرائيلي.

بهذا، تتحول المأساة الإنسانية إلى أداة ضغط سياسي لإعادة هندسة المشهد الفلسطيني بما يخدم الأمن الإسرائيلي.

خامساً: رسائل ترمب إلى إيران ومحور المقاومة

زيارة ترمب للمنطقة في هذا التوقيت توصل رسائل متعددة:

إلى إيران، بأن واشنطن ما زالت تمسك بخيوط اللعبة رغم تراجع هيبتها في السنوات الأخيرة، وأنها قادرة على فرض ترتيبات إقليمية جديدة رغم التمدد الإيراني.

إلى محور المقاومة، بأن التحالفات الجديدة التي تشكلت خلال الحرب لن تمر دون رد أمريكي سياسي ودبلوماسي يعيد التوازن لصالح إسرائيل.

وإلى الدول العربية، بأن واشنطن وحدها ما زالت تملك “مفتاح التسويات” وحق الوصاية على مستقبل غزة والمنطقة.

سادساً: إسرائيل وتجميل الفشل

نتنياهو بحاجة ماسة لحدث خارجي ضخم يعيد إليه شيئًا من شرعيته المفقودة، ويقدمه أمام الداخل الإسرائيلي كمن حقق “إنجازًا دبلوماسيًا” بعد فشل ذريع في الميدان.

زيارة ترمب إلى تل أبيب بعد شرم الشيخ ستُستثمر دعائيًا في الإعلام الإسرائيلي لتلميع صورة الحكومة وتبرير التراجع من الميدان العسكري نحو الميدان السياسي، بزعم تحقيق “اتفاق برعاية أمريكية يضمن أمن إسرائيل”.

لكن في جوهر الأمر، ما يجري هو محاولة لتغطية فشل استراتيجي عبر “هدنة سياسية” لا تمس جوهر الاحتلال ولا تُعيد الحقوق لأصحابها.

سابعاً: البعد الدولي… إعادة تموضع أمريكي في وجه الصاعدين

الزيارة تمثل أيضًا جزءًا من إعادة التموضع الأمريكي في الشرق الأوسط.

فواشنطن تسعى لتأكيد أنها لا تزال صاحبة القرار في ملفات الإقليم، في مواجهة التمدد الروسيالصيني ومحاولات أوروبا كسب موطئ قدم في إدارة ما بعد الحرب.

“تحالف إعادة الإعمار” الذي يُروج له ترمب ليس مشروعًا إنسانيًا بقدر ما هو أداة نفوذ اقتصاديسياسي لإعادة ربط المنطقة بمنظومة المصالح الأمريكية والإسرائيلية.

خاتمة

زيارة ترمب للمنطقة، وما يرافقها من دعوة للرئيس محمود عباس للمشاركة في مراسم التوقيع في شرم الشيخ، تعكس إعادة رسم خريطة التفاعلات السياسية بعد حرب غزة.

لكن الخطر يكمن في أن يتحول “وقف الحرب” إلى مدخل لتكريس واقع الاحتلال، وأن يُستبدل الحل السياسي العادل بصفقة مؤقتة تحمل عنوان “السلام مقابل الإعمار”.

الحضور الفلسطيني الرسمي في شرم الشيخ، إن لم يقترن برؤية وطنية واضحة وموقف مبدئي صلب، قد يُستغل لإضفاء شرعية على تسوية لا تُنهي الاحتلال ولا تحقق العدالة.

ويبقى الرهان على الموقف الفلسطيني والعربي الواعي، القادر على تحويل شرم الشيخ من منصة لتكريس الأمر الواقع إلى فرصة لاستعادة زمام المبادرة السياسية وتأكيد أن لا سلام دون إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

شاركها.