أمد/ الإهداء
إلى الذين كتبوا حروفهم على أوراقٍ خفية،
وابتلعوا كلماتهم خوفًا من أن تُعدم الحقيقة…
إلى الإخوة ورفاق الزنازين الذين جعلوا من الألم وطنًا، ومن الصمت صوتًا لا يُنسى.
إلى من رحلوا وبقيت آثار أقلامهم على جدران السجن تشهد أنهم كانوا هنا.
إلى أبو خلف وأبو جهاد،
إلى كلّ من حمل كبسولة الأمل في جوفه وخرج حيًّا أو شهيدًا،
إلى أمّهات الأسرى اللواتي ينتظرن خلف القضبان بأعينٍ لا تنام،
إلى كلّ أسيرٍ ما زال يكتب في العتمة رسالةً من لحم قلبه…
إليكم جميعًا أهدي هذه الرواية،
فأنتم الحبر الذي لا يجفّ، والكلمة التي لا تُدفن،
وأنتم الكبسولة التي ما زالت تنبض في جوف الذاكرة.
ـ الحركة الأولى بداية الحكاية الرسائل التي لا تُكتب على
ورقة
في الزنزانة الضيقة، حيث لا شيء سوى الجدران الباردة وأنفاس الخوف،
كان أبو الأديب يجلس القرفصاء تحت ضوءٍ خافتٍ يتسلّل من ثقبٍ في الجدار.
إلى جانبه أبو خلف وأبو جهاد، ثلاثة رجالٍ جمعهم الأسر، وفرّق بينهم الألم،
لكن شيئًا صغيرًا كان يوحّدهم: الكبسولة.
الكبسولة لم تكن دواءً، بل حيلةً عبقرية في وجه الجدران العالية.
قصاصة ورقٍ رقيقة، يُدوَّن عليها الحلم، تُلفّ بإحكام داخل غلافٍ من النايلون،
ويُحرق طرفاها لتأخذ شكلاً انسيابياً يسهل ابتلاعها أو إخفاؤها.
ومن هنا وُلد الاسم : الكبسولة الأمنية.
كان السجناء يكتبون بخطٍّ متناهي الصغر باستخدام قلم حبرٍ دقيق،
يضعون الورقة على لوح زجاجي ليحصلوا على أسطرٍ مرصوصة تكاد لا تُرى.
تُكتب الرسائل بلغةٍ مشفّرةٍ غامضة، لا يفكّ رموزها إلا من وُجّهت إليه.
كانت تحمل أسراراً، ومواعيد، وتعليماتٍ مصيرية.
ولم تكن الكبسولة رسالةً فقط، بل وعدًا بالحرية، ووثيقة حياةٍ تُخبّأ في جوف إنسانٍ ينتظر خروجه ليُعيد وصل السجن بالعالم.
كان “صندوق البريد البشري” هذا يغامر بحياته كل مرة.
فما إن يتجاوز بوابات التفتيش الإسرائيلية، حتى يبدأ رحلة الألم ليُخرجها بطرقٍ مؤلمة.
لكن الرسالة تصل دائمًا، لأن خلفها وطن ينتظرها.
ـ الحركة الثانية: الرسالة التي غيّرت المعنى
انتشر استخدام الكبسولات منذ العام 1967،
حين امتلأت السجون بالأسرى الفلسطينيين.
كانت وسيلة تواصلٍ سرّية بين الأقسام والفصائل، تُنقل عبر الجوارب أو المطبخ أو تحت الجدران.
وفي إحدى الليالي، وبينما كان أبو جهاد يتهيأ لابتلاع كبسولةٍ جديدة، قال بصوتٍ متهدّج:
ـ “مش كل كبسولة بتحمل أخبار… في كبسولات بتحمل أرواح.”
ضحك أبو خلف وقال:
“بس أهم شي، تضل الكلمة واصلة، حتى لو بلعناها!”
كانت كلماتهم نُكاتٍ صغيرة تُخفي تحتها الجمر.
كانوا يعلمون أن ما يكتبونه اليوم، سيُغيّر يوماً ما مجرى التاريخ.
كانوا يتحدثون عن كبسولةٍ بعينها، كتبها أحد القادة الكبار داخل السجن،
تحتوي على معلوماتٍ حسّاسة عن مجزرةٍ وُشي بها في الداخل.
تم تهريبها بصعوبة، لكنها اختفت بعد الإفراج عن حاملها.
تلك الكبسولة ظلت سراً دفيناً، كأنها قطعة من القلب ابتلعتها الأرض.
ـ الحركة الثالثة: حين تنطق الكبسولة
مرت السنوات…
وخرج أحد رفاقهم، سامر، من الأسر بعد أن أفنى شبابه خلف القضبان.
لكن صدى الكبسولة القديمة ظلّ يطارده.
في إحدى ليالي الحرب، وبين ركام غزة المدمَّرة،
وجد سامر صندوقاً معدنياً صغيراً في بيتٍ مهجور قرب البحر.
في داخله كبسولة مغلّفة بالشمع، مكتوب عليها بخطٍّ دقيق:
“سرّ السجن لا يموت.”
جلس سامر في القبو، وأشعل شمعة.
حين ذاب الشمع، خرج من داخلها ضوءٌ أزرق خافت.
وفجأة انطلق صوتٌ مسجَّلٌ مبحوح، كأنّه صادرٌ من بطن الأرض:
“تم تنفيذ العملية بتوجيه مباشر… الهدف: تصفية الشهود.
التعليمات من وحدة خاصة… لا شهود، لا بقاء.”
ظهر في التسجيل ضابطٌ رفيع أمام خريطةٍ لمخيم جباليا.
الصدمة جعلت سامر يرتجف:
يعني المجزرة كانت مخططة… مش صدفة!
في تلك اللحظة، اقتحم الجنود القبو.
ركض سامر تحت الرصاص، والكبسولة في قبضته.
كل ما يدور في رأسه:
“ما لازم تموت الحقيقة.”
عند مفترقٍ صغيرٍ في المخيم، رأى طفلاً بعكّازين يقف وسط الغبار.
اقترب منه وقال:
شو اسمك يا بطل؟
أجابه الطفل بصوتٍ واهن:
رائف.
توقّف الزمن.
رائف؟ الاسم الذي سمعه في الكبسولات القديمة!
قال الطفل وهو يناوله ورقة صغيرة:
“ستي أم منار قالتلي إذا شفت سامر، أعطيه هاي الورقة.”
فتحها سامر فقرأ:
“إذا سقطت أنا، فخذ الكبسولة إلى البحر… البحر ما بيخون.”
ركض سامر ورائف نحو الساحل.
السماء تمطر ناراً، والزوارق تقترب.
عند آخر صخرةٍ في الميناء، رفع سامر الكبسولة وقال:
هاي مش إلي… هاي للحقيقة.
ألقى الكبسولة بكل قوته نحو الموج، وانفجر المكان من حوله.
لكن البحر ظلّ يحتضن الضوء الأزرق الصغير، كأنه يحفظ السرّ في قلبه.
بعد أيام، تسلّمت إحدى القنوات الدولية رسالةً إلكترونية مشفّرة بعنوان:
“الكبسولة الأمنية الذاكرة التي لا تموت.”
في داخلها التسجيلات والصور والأسماء.
انتشر كالنار في الهشيم، وارتجف العالم أمام الحقيقة.
وعلى الشاطئ، جلس الطفل رائف ينظر إلى الأفق،
يبتسم وهو يسمع صوتًا بعيدًا يأتي من البحر:
“الحقيقة ما بتموت يا رائف… حتى لو بلعوها في كبسولة.”
الخاتمة
ما بين الظلمة والنور، بين الجدران العالية والموج الهادر،
ولدت الكبسولة الأمنية شاهدةً على بطولة رجالٍ كتبوا التاريخ بالحبر والدم.
هي ليست كبسولة ورقٍ فحسب، بل كبسولة ذاكرةٍ وكرامة.
تُبتلع… لكنها لا تُنسى.
تُخفى… لكنها لا تموت.
كلمة المؤلف
بقلم: سامي إبراهيم فودة
ليست هذه الرواية مجرّد خيالٍ أدبي، بل شهادةٌ حيّة على زمنٍ من الصمت والجدران والبطولة.
“الكبسولة الأمنية” لم تكن ورقةً تُبتلع، بل كانت صرخةً مكتومة في أحشاء الأحرار، طريقًا وحيدًا لقول الحقيقة في وجه القيد والجلّاد.
كتبتُ هذه الرواية لأُعيد الاعتبار إلى أولئك الذين نقلوا الكلمة من جوفهم،
وحملوا قضايا إخوتهم في بطونهم قبل أن يحملوها في قلوبهم.
لكل أسيرٍ خبّأ رسالةً في الظلام، ولكل أمٍّ انتظرت خبراً من وراء القضبان،
ولكل رفيقٍ قال “أنا الكبسولة وأنا السرّ”… هذه الحكاية لكم.
لقد كانت الكبسولة ذاكرة السجن الفلسطيني، وشيفرة التواصل بين أبطالٍ مجهولين خطّوا رسائلهم على ورقٍ رقيق،
ومرّروها بأجسادهم من قلب الجحيم إلى فجر الحرية.
فيها الحبّ، والخوف، والوطن، والانتماء، والخيانة، والأمل الذي لا يموت.
ولعلّها اليوم تُبعث من جديد، لا كرسالةٍ من سجينٍ إلى آخر، بل كنداءٍ من الذاكرة إلى الوعي.
فالحقيقة، مهما ابتلعوها، لا تموت…
تمامًا كما لا تموت فلسطين.