رمضان.. شهر المصالحة مع الذات العريقة

فبعد سنة من الرتابة والجمود ووسط بيئة يطبعها الخمود والركود، يهل علينا رمضان، ليعلن فينا ثورة الخصوبة والنماء، وليسمو بنا من الركون إلى الأرض، إلى التعلق بأحكام السماء.
يقلع المذنب عن الضياع في عالم التائهين بلا شراع، ويقدم على تطهير القلب وإعداد النفس بحسن التلقي وإحداث القابلية للطاعة وإلا تباع.
كل شيء في حياتنا يتغير، فسيدة البيت تقبل على غسل الجدران، وتغيير الألوان، وتطهير كل شيء استعدادا لرمضان. والمكتبات، المؤسسات والمنشئات كلها تعلن حالة طوارئ، لإعادة تنظيم التصالح مع الرواد والزوار وكل المقبلين عليها، لمواءمة أنظمتها، في محاولة لبعث النشاط العلمي والفكري وإنعاش الأفكار بالمسابقات، المنافسات، إكراما لشهر المبادرات.
وهكذا وبدل أن يقضي المسلم منا يومه “نائما” وليله “هائما”، ها هو يعيش يومه “صائما” وليله “قائما”. سبحانك اللهم جعلت من رمضان، عكس بقية الأيام، شهرا يعلو فيه الذكر وينتعش فيه الفكر، فيعم القرآن البيوت والأرجاء ويزدهر سوق الإقراء والقراء.
إنه شهر المصالحة مع الذات العريقة التي تعيد الجميع إلى عمق الانتماء وإلى تحسين خط السلوك والاقتداء وإعادة بناء المجتمع المسلم الإنساني النموذج والمثالي النماء، الإخاء، الوفاء والصفاء.
ليت كل أيامنا تغدو أياما رمضانية، ففي رمضان تصفد الشياطين من كل جنس، ويحل بدل ذلك التضامن، التعاون، الإحسان والأنس.
فمن مزايا رمضان كما يجب أن يكون أن يقل جشع التجار والمحتكرين للدينار وأن تنخفض الأسعار ويغيب الاحتكار، حتى يتنفس المعوزون والمستضعفون والمحرومون مما يعانوه من أضرار.
وعلى عكس ما يفهمه خطأ بعض محدودي الثقافة الدينية، فإن رمضان هو شهر الفتوحات الإسلامية، في المشرق والمغرب، وشهر الجهاد بامتياز، كما أثبت ذلك حديثا مجاهدو نوفمبر في الجزائر، ومجاهدو القسام في غزة وفلسطين.
بل إن الصيام رابط مقدس، يجب أن يربطنا بعدالة السماء، فيبعث فينا الإيمان الصحيح بالعزة والكرامة، ويحررنا من ذل العبودية لغير الله.
بالصيام ينزل الحاكم إلى معاناة المحكومين، فيحس بما يلاقونه من شظف العيش وهول التقلبات فيلين قلبه ويرق شعوره.
وتؤكد الإحصائيات أن المجتمع الإسلامي في شهر الصوم تقل فيه الجريمة وتنتعش فيه المصالحة الكريمة فيكثر التزاور ويعم التشاور، إعدادا واستعدادا لمعجزات ليلة القدر، وسموا بالنفوس إلى عيد الأفراح والخروج من الأحزان والأتراح.
إن في الصيام تحقيقا لغايات وأهداف ومقاصد نبيلة، لو أن المسلمين تدبروا حقا فلسفة الصوم.
ففي ثنايا الصوم، يدرك المتأمل لمقاصده أن الصوم سمو بالإنسان، من بهيميته البشرية التي تسود بالأكل إلى إنسانيته المثالية التي تتحقق بالصوم.
فبالصوم نتعلم قوة الإرادة التي تشحذ عزيمتنا، فتجعلنا نعلو عن الغرائزية التي سببها الأكل، إلى الإنسانية العليا التي تتولد لدينا بالصوم الذي نتميز به عن باقي البهائم.
نحن المجتمع المسلم الصائم، نكون في شهر رمضان أشبه ما نكون بمجتمع الملائكة، كما أننا ندرك بالصوم ما نستفيده من حِمْيَةٍ نستلهمها من الحكمة الإسلامية “صوموا تصحوا”.
كما أن الصوم هو الذي استنبط منه بعض القادة العقلاء من غير المسلمين، كالزعيم الهندي غاندي الذي استخدم الصوم وهو غير المسلم للمصالحة مع شعبه وتوحيد صفوفه ضد الإنجليز، فقال عنه الكاتب الجزائري ابن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأستاذ أحمد توفيق المدني “رجل يصوم وأمة تنقاد”. وفعلا انقادت أمة الهند، بصيام غاندي ضد الاستعمار الإنجليزي، وعلى نفس المنوال سار زعماء المقاومة في كل مكان، وخاصة في السجون الذين استخدموا الصوم كمنهج بامتياز، فولدت حكمة “المقاومة بالأمعاء الخاوية”، كما حصل في السجون الإسرائيلية على أيدي المقاومين الفلسطينيين.
كل هذا يقودنا إلى الاستنتاج بأن الصوم هو حقا شهر المصالحة مع الذات العريقة، بكل أبعادها الأفقية والعمودية، وذلك هو المقصد الأسمى من فلسفة الصوم في الإسلام.
عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين