أمد/ في زمنٍ قلّ فيه الثبات على المبدأ، ورجَحت فيه كفّة المساومة على الكرامة، رحل عماد. لم يكن مجرد اسم يتردد في سجلات النضال، بل كان روحًا تسري في جسد الوطن، حكاية تروى، وصوتًا ظل عاليًا حتى خفتَ نبضه الأخير.
العقيد عماد محمد إبراهيم أبو حمد لم يكن عابرًا في المشهد الفلسطيني؛ بل كان من أولئك الذين يكتبون التاريخ بدمهم، ويجسدون معناه بمواقفهم. رجل من غزة، خرج من رحم النكبة، حاملاً في قلبه وجع التهجير من بئر السبع، وفي عقله حلم العودة، وفي يديه فعل المقاومة.
عاش نقيًا… ورحل كريمًا
في ريعان شبابه، ومع أولى شرارات الانتفاضة الأولى، لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة، لكنه كان أكبر من عمره بمراحل. التحق باللجان الشعبية لحركة فتح، وعمل بصمت وبكفاءة، حتى بات اسمه مألوفًا في أروقة العمل الوطني.
سُجن ثلاث سنوات ونصف في سجون الاحتلال، خرج منها أكثر عنادًا، وأكثر وفاءً لفلسطين. وعندما عادت طلائع السلطة الفلسطينية، لم يتردد في الانخراط في صفوف الشرطة الوطنية، مدركًا أن معركة البناء لا تقل قداسة عن معركة البندقية.
تدرّج في المناصب، لكنه لم يتغير. بقي كما هو: جنديًا في معركة الكرامة، ووجهًا باسمًا في وجوه زملائه، وصوتًا لا يعرف المجاملة على حساب الحقيقة.
كتائب الأقصى… والجرح الذي لم يندمل
عندما تفجّرت انتفاضة الأقصى، كان من أوائل من حملوا على عاتقهم تأسيس كتائب ش/هداء الأقصى في غزة. كان مؤمنًا أن المعركة لا تزال طويلة، وأن الاحتلال لا يفهم سوى لغة المقاومة.
دفع ثمن هذا الإيمان غاليًا، فاستهدفته طائرات الاحتلال عام 2005، في محاولة اغتيال غادرة، نجا منها بأعجوبة، لكنه ظل يحمل أثرها في جسده حتى وفاته.
نزف كثيرًا، وتعافى قليلًا، لكنه لم يشكُ. نقلوه إلى مصر للعلاج، وهناك بقي لسنوات، جسدٌ أنهكته الإصابة، وروحٌ لم تنكسر.
الوداع الأخير… ولا وداع لمن لا يُنسى
في مساء الأحد 19 أكتوبر 2025، أسلم عماد الروح، إثر وعكة صحية مفاجئة، لكن الحقيقة أن قلبه كان متعبًا منذ سنوات، مذ سقط رفاقه في الميدان، ومذ غاب الحلم خلف جدران الانقسام والخذلان.
شيّعه محبوه في القاهرة، كما يليق برجلٍ عاش كبيرًا ومات كريمًا. ودّعوه في مسجد الشه/يد جمال عبد الخالق عامر، وواروه الثرى في مقابر أحمد عصمت في عين شمس، لكن ذكراه بقيت حيّة لا تُدفن.
الروح التي لا تموت
المناضلون لا يرحلون فعلاً… هم يتركون لنا ما نقتدي به، ما نُحاسَب به أمام أنفسنا: هل كنّا على قدر الموقف؟
رحل عماد، لكن صدى صوته باقٍ في زنازين النقب، في شوارع غزة، في حكايات زملائه، وفي وجوه أبنائه الثمانية الذين سيرثون منه الكبرياء لا المال، الشجاعة لا الندم.
سلامٌ على من قاتل بشرف، وخدم بإخلاص، ومات دون أن ينكسر.
سلامٌ عليك يا عماد… أيها الوطن حين يتجسد في رجل.