اخبار المغرب

المساواة بين الرجل والمرأة.. قرار نظري أولا، سياسي ثانيا

ليست منظومة الحداثة، أو “منظومة المحايثة” شيأ اختياريا، كما يعتقد البعض، بل هي بمثابة البردايم الشامل، أي هي نموذج ذهني يوجه رؤيتنا للعالم، و له الكلمة العليا والحاكمة،إنها المحدد المعرفي اللاشعوري للتصور، ونحن خدام له بوعي أو بدونه، إنه يحرك كل قطاعات الحياة محليا ودوليا، فهو مفروض على الجميع بما فيهم الغرب،الذي و كما نعلم، قاوم الرؤية الحداثية اللاطبيعية واللاتراتبية وأحرجته وهددت أمنه العام، فرواد الحداثة، كما يعرف الجميع، لم يتم استقبال أعمالهم بالورود( كوبيرنيكوس لم يخرج كتابه إلا وهو على فراش الموت، ديكارت كتب بشكل مقنع وكاد أن يحرق أوراقه، غاليليو سجن بشكل مهين، جيوردانو أحرق، داروين اختبأ بعد إصدار كتابه…)، بل تم رفضهم، لكن أفكارهم استطاعت فرض وجودها، لأنها مسلحة برؤية علمية كاسحة وظافرة، تؤتي المردودية والنجاعة.

ولابد هنا من الإشارة إلى أن الحداثة ليست منتجا غربيا قط، بل هي منتج عالمي ساهمت فيه كل البشرية، فكوبيرنيكوس الذي دشن نسف ذهنية التراتب كان تلميذ الفلك الإسلامي بامتياز، فهو مجرد ولادة لمخاض مدرسة الأندلس بزعامة البتروجي وابن رشد ومدرسة مراغة الفارسية بزعامة نصير الدين الطوسي وآخرين كمؤيد الدين العرضي وقطب الدين الشيرازي وابن الشاطر. والمخاض أصعب من الولادة. لذلك لا يمكن القول بأن الرؤية اللاتراتبية غربية، بل هي عالمية، فالفكرة مقبولة كونيا، بإيعاز علمي صلب و صعب رده، مع فرق واحد وهو أن الفكرة فعلت فعلها بقوة في أوروبا واشتغلت على نار هادئة محرجة الناس هناك احراجا نظريا أولا ومن بعدها عمليا، أما نحن فجاءتنا هذه الرؤية وافدة عمليا وليس نظريا ،عن طريق لقاء استعماري قاهر وجارح سمي بصدمة الحداثة، وهو ما جعلنا نتعثر في استيعاب هذه الرؤية إلى حد الساعة، واعتبرناها غربية، يريد الآخر فرضها علينا، بينما هي منظومة عالمية أحرجت الغرب نفسه وهو بالمناسبة لازال يقاومها، وإن بشكل أخف منا.

كما أن التنبيه واجب، إلى أن التحرك نحو سحق الفوارق لم يتم دفعة واحدة بل تم بالتدريج، فالمرأة مثلا لم تكن مقصودة حين الحديث عن الكرامة في عصر الأنوار إبان القرن18م، ويكفي التذكير بموقف جون جاك روسو الذي كان لا يرى المرأة إلا في البيت ولخدمة زوجها، ويرى ذلك أمرا طبيعيا ينبغي أن تخضع له، وهو بالمناسبة الرأي الذي جعل العديد من النسويات يهاجمنه هجوما شرسا، إن الإنسان في حقبة الأنوار كان بالدرجة الأولى هو الرجل، لكن بمجرد أن حصل الرجل الكرامة وشبعها، فاضت عنه لتصل إلى المرأة ثم الطفل وبعده ذوي الحاجات الخاصة فالحيوان( أصبح يعد شخصا) وهكذا تباعا. فالتوحيد المحايث يسير بهدوء نحو غايته القصوى وهو محو كل الحدود بل محق الأصل كليا.
إن مسار بلوغ المرأة للندية مع الرجل وتهديد آخر قلعة محصنة وهي الأسرة سائر إلى هدفه، ليس بقوة السياسي والاقتصادي فقط… بل بقوة البردايم النظري اللاتراتبي الموجه، فالسياسي مثلا يدبر اللحظة التاريخية بتوازنات تجعل الأمر يسير دون كوارث، أما المسار فمرسوم سلفا من طرف الإطار النظري الموجه وبنوع من المكر الشبيه بمكر التاريخ الذي تحدث عنه هيجل،

إن محو الحدود وخلق التجانس بين المراتب الذي يقلق بال العالم، نشهد ملامحه كل يوم قد بدأت مع الفلك حيث صعدت الأرض السافلة والرذلة إلى السماء الكاملة، لتمس بعدها السياسة، حيث صعدت الإرادة العامة لسدة الحكم، وهكذا في تدرج مع التاريخ حتى بلغ الأمر إلى ضرب تراتب آخر أخطر، هو تراتب الذكر والأنثى ليدخل على الخط أنواع جنسية أخرى لها الحق بالتواجد وتخرج من كونها حالات خاصة هامشية إلى المركز لتعلن نفسها باستحقاق… وقد يبدو الأمر وكأنه قرار سياسي فقط، لكن إذا تدبرنا الأمر جيدا سيظهر أنه يتم بإيعاز نظري أكبر من الجميع، فالرجل الذي كان يحظى بامتياز طبيعي يسمح له بالتفوق، بل كان بحكم رفعته وقوته الطبيعية يتملك القوامة وبيده زمام الأمر، لن يعود أمره كذلك، لأننا نشتغل في ظل أفق نظري صناعي مختلف تماما يفرض كلمته كل لحظة، فمنظومة الرؤية تغيرت جذريا، فلم يعد للحدود والفوارق من قيمة، وذلك منذ مغادرة الأرض محلها السافل لتعانق الكمال السماوي، فالتجانس أصبح مطلبا صناعيا، فالحداثة وكما نعلم غادرت الطبيعي بجلاء منذ القرن 17م، حينما قرر العلماء صناعة الحقيقة بمعزل عن وحي السماء، وعدها ليست أبدا من المعطيات الجاهزة، بل هي إعداد بمجهود بشري خالص، وهكذا قس على ذلك صناعة المجتمع وصناعة القوانين، وصناعة الثراء وصناعة المشاعر(فيلم سينمائي يبكيك ويضحك) وصناعة الأخبار، السياسات، الحروب، الدواء، الجمال، الغذاء…فيكفي مثلا الذهاب لأي سوق تجاري بحثاً عن جناح الغذاء الطبيعي، لتجده منعدماً أو في زاوية صغيرة وبكميات قليلة وأسعار مرتفعة، ومن تم، تصبح الحداثة مجرد سحق للطبيعي وتملص من قبضته.

إ ولتوضيح قوة الرؤية النظرية للحداثة نقول: إن الفكرة التي حركت الأرض ورفعتها إلى مرتبة السماء، ستكون بمثابة جواز نظري هائل سيأخذ البشرية في مسار ما نسميه بـ”التوحيد المحايث”، حيث سيكون السعي حثيثاً لهدم كل الفوارق والتفاوتات المألوفة، وعوضاً عن ذلك سيتم العمل على خلق المساواة( التوحيد) في كل شيء، ولو على حساب الطبيعي من الأمور، ويكفي للمرء تتبع مسيرة ما حدث بعد ثورة كوبيرنيكوس، ليكتشف أنها مسيرة دمج محايث بامتياز، فمنذ أن تم رفع الأرض إلى السماء فلكيا، انطلقت مسيرة “وحدة العالم” ومغادرة القول بالعالمين ونقصد تلك التفرقة بين عالم سماوي كامل وعالم أرضي سافل. وهو ما تم تكريسه مع نيوتن بتوحيده قوانين الكون في توليفة رياضية متناغمة تجعل سقوط التفاحة كدوران القمر. كما تم الأمر فلسفياً مع اسبينوزا بفلسفته عن وحدة الوجود حيث دمج الطبيعة بالله، ودمج النفس بالجسد في وحدة متكاملة، وتبلوت الوحدة أيضاً عند العديد من المفكرين والتيارات، فيكفي التذكير بديكارت وإرادة تعميمه للذوات ومن تم تعميمه للمعرفة، فلا أحد أحسن من الآخر، فيكفي التسلح بالمنهج والاستخدام الجيد للعقل لبلوغ الحقائق، هذا التعميم في مجال المعرفة سيتعزز مع الثورة الرقمية لاحقاً والتي جعلت المعرفة معممة وليست حكراً على أحد، ويمكن كذلك استحضار الداروينية التي دمجت الإنسان في قلب الطبيعة فهي اعتبرته من جذورها ولا يحمل أي شيء مفارق عنها، إنه ابنها ومنها وإليها، علاوة على ذلك فالكوبيرنيكية مهدت إلى إرادة توحيد الحاكم بالمحكوم، وهنا نستحضر نظرية التعاقد الاجتماعي كما تبلورت عند هوبز ولوك وروسو، والأمر نفسه يقال عن التحرك الحداثي نحو توحيد الحقوق وإعلان المساواة بين الرجل والمرأة، بل بين الإنسان وذوي الحاجات الخاصة وكذلك الكائنات الأخرى [للحيوان حقوق]، والأكثر من ذلك فقد تشكلت عند الكثير فكرة توحيد الجنس، ونستحضر هنا أطروحة “الجندر” التي تريد إبراز أن الاختلافات الجنسية مسألة ثقافية، أولاً وأخيراً، بل هناك إرادة ملحة على دمج الفيزيائي بالبيولوجي لتشكيل الحيوالة ” cyborg” ضمن أمثلة أخرى مؤرقة.

لقد أصبحنا في الحقيقة مساكين ونحن نقاوم هذا المسار الذي أراه قدرا لا راد له، وهي مقاومة مبررة جدا، فمؤلم جدا أن نرى الطبيعي ينهار وهو الأصل الذي تشكلنا وفق برمجته منذ بدأت الخليقة.

وإذا عدنا إلى الأسرة بمعناه الطبيعي التراتبي، فإن أهم ما كانت تضمنه هو النسل من الصلب، فالرجل يرتاح أن الطفل الذي يتم انجابه بصيغة طبيعية ينتمي إليه، لكن ماذا نقول في ظل انتشار زواج المساكنة؟ وماذا نقول في ظل ذيوع أبناك الحيوانات المنوية؟، وماذا نقول في ظل انتشار الأرحام المستأجرة؟ بل ماذا نقول عن الأرحام الاصطناعية؟ التي ستسمح بالإنجاب مختبريا خارج الرحم؟ بل ماذا نقول في ظل التطور الحاصل في ما يسمى تحسين النسل”EUGENISME”…
إن التوحيد المحايث الذي يسحق التراتب والفوارق الطبيعية، وبشكل نراه جنونيا، يجعل الحاجة إلى الأسرة في القريب العاجل متجاوزا جدا، بل إن فكرة ضمان الأصل لأمر قد يبدو في القريب العاجل “غبيا”، فأخذ حيوان منوي من جهة مجهولة والعمل على تعديله وراثيا بجراحات تحذف منه وتضيف إليه بحسب الطلب ثم ضخه في رحم صناعي، قد يجعل مفهوم الأب الأصلي، بل حتى الأم الأصلية في خبر كان…

ومادام أن انهيار التراتب الطبيعي يحدث أضرارا اجتماعية ونفسية كبيرة، فإن صناع القرار مطالبين بأن يأخذوا السياق النظري بعين الاعتبارـ وذلك بإعداد الناشئة لتقبل هذا المسار بصدر رحب ويتكيفوا مع هذه الرؤية الصناعية للعالم التي تمحو الحدود وتسحق الأصل كليا.

إن البردايم الحداثي أو إن منظومة الذات أو لنقل منظومة المحايثة التي قوامها اللاتراتب تسير بالبشرية نحو المساواة والتوحيد المحايث، بل تسير به ضد الطبيعي في اتجاه عالم صناعي لن يتوقف أبدا، بل أقول:إن البشرية تسير نحو سحق فكرة الأصل ويكفي التذكير بما يحدث في عالم التعديل الوراثي والتفكير بالإنجاب الصناعي، فالمستقبل يشي بأن التزاوج بمعناه الطبيعي المألوف سيصبح لربما من المحكيات المنقرضة.

إن مقاومتنا للمسار الصناعي، الذي هو ضد الطبيعي، أي ضد المراتب، لأمر عادي ويمكنه تفهمه، لأن فيه تخطيا للحدود، بل محوا للحدود، فالطبيعي هو مكان الأمان، مكان كل شيء في محله، أما الصناعي فهو ينسف هذا الأمان وينبئ بعالم مخيف، قد يجعل المغامرة الحداثية، التي يريد فيها الإنسان لعب دور”الإله”، ضربا من العبث الذي سيكون ثمنه باهظا.
وقد يرى البعض أن ما نقوله هو نوع من الاستسلام لقدر نظري، ولكن الهدف يتمثل في التنبيه إلى ضرورة استيعاب المنظومة بثابتها البنيوي، اللاتراتبي والصناعي، لضمان على الأقل التقليل من الانفعالات والتخفيف من التوترات، والتلطيف من الأيديولوجيات… والسهر على تدبير راهننا سياسيا واجتماعيا بأياد مفتوحة للمستقبل الذي لن يكون فيه للطبيعي من مجال. فالوعي بالأسباب بداية التحرر.

فهل قرارات رؤساء بعض الدول ستتمكن من تأخير مقاومة “التوحيد المحايث” كقرار رئيس روسيا، بوتين، الذي لا يتنازل في دستور بلده عن تحديد الجنسين في الذكر والأنثى فقط، وإرادة الرئيس الأمريكي ترامب الذي يضع من ضمن أولوياته إيقاف حمى التحول الجنسي؟! علما أن مقاومتنا في عالمنا الإسلامي لازالت قائمة.

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *