أمد/ في شعر محمد علوش، يتجلى المكان لا كإطار خارجي يحيط بالقصيدة، بل كنبض داخلي يكوّنها من الأعماق.
إنه ليس خلفيةً محايدة، بل شريك في الألم، ومرآة للذات، وجسد ينبض بتاريخ العائلة، وبأقدام الفقراء، وبصوت الريح حين تمرّ في الأزقة الحزينة، ولا يكتب المكان كما هو، بل كما يتداعى في الذاكرة: حياً، متوتراً، مكسوراً، ولا يزال يقاوم.
في قصيدته “عندما مات أبي، زرعناه نخلة”، تتحول العلاقة بين الإنسان والأرض إلى فعل انتماء وولادة، لا إلى دفن، فحين يقول: “قلنا للأرضِ: خُذيه، هو ابنُكِ، تربى بين ترابك،” فإنه لا يسلّم الجسد للموت، بل يعيده إلى رحمٍ أول، يثق بأنها ستحتضنه كما لو أنه سيعود منها، لا يُدفن فيها، والأرض هنا ليست وعاءً نهائياً، بل كائن أليف، أمومة لا تنضب، وحاضنة للغياب الذي لا يغيب.
ويمتد حضور المكان إلى المخيم، إلى الشوارع المتربة، إلى البيوت التي هجرتها الأرواح وبقيت الجدران تسأل عن ساكنيها، إلى القرى التي علّقت على الحواف، ونامت على رصيف التاريخ.
في شعره، يبدو المكان صغيراً بحجمه، لكنه واسعٌ بما يحتضنه من جراح، فالمخيم، مثلاً، ليس فقط مسكناً مؤقتاً للاجئين، بل مسرحٌ دائم للانتظار، للحنين، وللفقد الذي يتحول إلى ذاكرة جماعية، وهناك، في تفاصيل الخيام والأزقة والضحكات المختنقة، يكتب علوش نشيداً للمكان المهزوم والمنتصب في الوقت ذاته.
المدن الفلسطينية في قصائده ليست خرائط، بل وجوه، فطولكرم ليست نقطة على الحدود، بل صرخة، وجرح نازف، وذاكرة طافحة بالحنين والمفارقة، يقول: “حين تمشي الريحُ في شوارعِ طولكرم، تتعثّرُ بأحذيةِ الشهداءِ، وتفتحُ النوافذُ دفاترَ الغياب…”، وهنا لا تتحرك الريح فيزيائياً فحسب، بل روحياً، وكل ركن من المدينة يحتفظ ببصمة من عبروا، من سقطوا، ومن كتبوا أسماءهم على الحجارة قبل أن يغيبوا.
ولا يحضر المكان في شعره كموقع ساكن فقط، بل كجسد غاضب، في قصائد مثل “متى سيأتي الله؟”، يتجلى المكان وقد تحوّل إلى ساحة للمواجهة، حيث الجماجم تفتح أبوابها، والقتلى يحرّكون صمتهم ليشيروا إلى أن البلاد لم تخرج بعد من الموت، وأن الخراب لم يكتب النهاية، ففي مثل هذه النصوص، تكون العلاقة مع الجغرافيا محمومة، مشتبكة، فالأرض هناك ليست مجرد مكان، بل خصم وحليف، بيت وغربال، سؤال لا يتوقف عن الوجع.
ولا تتوقف ذاكرة المكان في شعر علوش عند الجغرافيا الفلسطينية وحدها، بل تمتد إلى المنافي، إلى المرافئ، إلى المطارات والحدود، حيث يتحول المنفى إلى مكان موازٍ، لا يقلّ كثافةً عن الوطن. هناك، يحمل الشاعر التراب في الحقيبة، ويضع وجوه أحبائه في الجيوب، ويعلّق الخرائط كتمائم ضد الغرق في النسيان، والمنفى لا يُكتب كشتات، بل كذاكرة مؤجلة، كبيت ضائع في اللغة، وكوطنٍ يُعاد تشكيله سطراً بعد آخر.
لكن الأهم في كل ذلك، أن محمد علوش لا يكتب المكان من أجل النوستالجيا، بل من أجل البحث عن المعنى في الخراب، إنه لا يرثي، بل يستنطق، ولا يحنّ، بل يعيد تشكيل الأشياء على نار الوعي والجرح والتحدي، والقصيدة، بهذا المعنى، تصبح بيتاً آخر، مكاناً يرمم هشاشة الجغرافيا بالخيال، ويحمي الذاكرة من المحو.
في زمن تُمحى فيه الملامح وتُغتال الأمكنة وتُعلّق البلاد على حبال الخسارة، يمنحنا علوش في شعره أمكنةً لا تنكسر، بل تُكتب وتُعاد قراءتها، لا كأثر منسيّ، بل ككائن يتنفس، ويشهد، ويواصل الحلم.