خير الأعمال أدومها وإن قل

روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومُها وإن قلَّ”؛ وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا عمل عملا أثبته، وكان إذا مرض أو منعه شيء عن ورده قضاه من النهار، وكان يقول كما روى مسلم عن عمر بن الخطاب: “من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقَرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كُتب له كأنما قرأه من الليل” ليرغّب الناس ألا يتركوا أورادهم، ويحثهم على أن يداوموا على أعمالهم.
وقد ورث السلف رضوان الله عليهم هذا من رسولهم، وتأسوا به فيه فكان لهم فيه أسوة حسنة، فكان إذا علمهم شيئا أو عملوا شيئا أثبتوه ولم يتركوه. قيل لبشر الحافي: إن قوما يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضان تركوا، قال: “بئس القوم، لا يعرفون الله إلا في رمضان”، وقال الحسن البصري: “لا يكون لعمل المؤمن أجل، دون الموت، ثم قرأ: {واعبُد ربك حتى يأتيك اليقين}.
ولقد ضرب الله مثلا في القرآن لامرأة حمقاء كانت في مكان بين مكة والطائف، كانت تغزل الصوف، وكان معها فرق عملٍ من النساء والفتيات، كن يغزلن معها، وكانت تصنع شيئا من الصوف عجيبا وجميلا، كانت تغزل حتى إذا انتصف النهار فكَّت ما غزلته، ونقضت ما صنعته، أعادته كما كان، وكأن شيئا لم يكن؛ قال تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليُبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}.
إن القلب المعمور بالإيمان في رمضان ينساق إلى الحقِ، وينطلق إلى الصواب، ولا يخرج منه إلا ما ينفع البلاد والعباد، لا يخرج منه إلا ما يُعبِّد الطريق إلى الله، ويستمر على ذلك ويداوِم عليه. المؤمن يعمل لغده كما يعمل ليومه، يعمل لمعاده كما يعمل لمعاشه، يعمل لآخرته كما يعمل لدنياه، يقدم ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.
والاستقامة بعد رمضان علامة على طريق السلامة، ونجاة يوم القيامة، وفلاح يوم الحسرة والندامة، ونجاح كبير يوم الملامة. والمؤمن مطالب بالاستقامة الدائمة؛ ولذلك يسألها ربه في صلاته على مدار اليوم والليلة: {اهدنا الصراط المستقيم}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “اتقِ الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها”، ولما جاء سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “قل: آمنت بالله، ثم استقم”.
إن ما يثير العجب أن تجد بعض الناس في رمضان من الصائمين القائمين والمنفقين والمستغفرين والمطيعين لرب العالمين، لكن بمجرد أن ينتهي الشهر إلا وقد انتكست فطرته وساء خلقه مع ربه، فتجده للصلاة تاركا ولأعمال الخير قاليا ومجانبا وللمعاصي مرتكبا وفاعلا، فيعصي الله جل وعلا بأنواع شتى من المعاصي والآثام مبتعدا عن طاعة الملك القدوس السلام، فبئس والله القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.
ينبغي على المسلم أن يجعل رمضان صفحة جديدة للتوبة والإنابة والمداومة على الطاعة ومراقبة الله في كل وقت وساعة، وعليه بعد رمضان أن يداوم على الطاعات ويجتنب المعاصي والسيئات امتدادا لما كان عليه في رمضان من أمور تقربه إلى رب البريات، وأن يخشى الله سبحانه وتعالى ويحرص على طاعته ويلازم تقواه، ويسعى دائما وأبدا للخير والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأخيرا، كن ربانيا ولا تكن رمضانيا، فرب رمضان هو رب شوال ورب كل شهور العام، فعليك بطاعة الله على الدوام، كن حافظا لكتاب الله، مقيما لحدوده، مديما للذكر، عاملا بالشرع، متبعا للسنة، محبا لإخوانك، حريصا على الخير والعمل الصالح، متجنبا للشر وأهله، آكلا للطيّبات، ممتنعا عن الخبائث المحرمات، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر.