خيانة عبدالناصر وقضية فلسطين ١
أمد/ ( لايزال عبدالناصر أفضل ما لدينا ،إن لم يكن أملنا الوحيد هنا )، هذا ما قاله ضَابط المخابرات المركزية الأمريكية كيم روزفلت ، وزميله مايلز كوبلاند ،وهوما دُوّن في تقريرهما الموجّه إلي جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة عام ١٩٥٦م ، وفق ما ذكره الكاتب والصحفي البريطاني جايمس بار ، في كتابه ( سادة الصحراء _الصراع الأمريكي _البريطاني على الشرق الأوسط أواسط القرن العشرين ) والذي صدرباللغة العربية و بنسخته الورقية الأولي عام ٢٠٢٠م،من مؤسسة دار الساقي ،بيروت _لبنان .
لكى نبدأ القصة من البداية،سنعود بالذاكرة الي الوراء ، تحديداً الي الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥م، وصعود قوى دولية وإقليمية جديدة في العالم وهي الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي ،أو ما يسمى (دول الإستعمار الحديث ) ،لقد صعدت هذه القوى مع أفول نجم قوى الإستعمار القديم مثل بريطانيا وفرنسا ، وبدء الصراع يحتدم على الشرق الأوسط بين قوى الإستعمار الجديد والقديم.
لقد هيئت المخابرات الأمريكية(التي أصبحت منذُ تلك الفترة صانعة العروش والرؤساء والأنظمة في الشرق الأوسط والعالم) الظروف ،وصنعت الملابسات والأسباب ، ليقوم مجموعة من “ضُباط الجيش ” في مصر بإنقلاب ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢ م، عن طريق الضَابط “كيم روزفلت ” العقل المدبر،والمسؤول الأول عن عمليات المخابرات المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط أنذاك .
وكيم روزفلت هوحفيد الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت .والذي سيلعب دوراً رئيسياً في إسقاط الملك فاروق في مصر،وتنصيب جمال عبدالناصر،و إسقاط رئيس وزراء إيران المنتخب محمد مصدّق عام ١٩٥٣م، وإعادة شاه إيران الذي فرّ الي بغداد ثم الي إيطاليا ،وإسقاط الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم عام ١٩٦٣م،وتنصيب حزب البعث وعبدالسلام عارف،والإطاحة بالرئيس السوري شكري القوتلي في مارس ١٩٤٩م،وتنصيب حسني الزعيم ، والإطاحة بالقوميين الأردنيين بقيادة رئيس الوزراء الأردني سليمان النابلسي وتثبيت حكم الملك حسين بن طلال عام١٩٥٧م،وحماية وتثبيت نظام الملك عبدالعزيزآل سعود ، وهو ما أعترف به أيضاً مساعد كيم روزفلت ،الضَابط مايلز كوبلاند في كتابه ( لعبة الأمم) الذي صدرعام ١٩٧٠م في الولايات المتحدة.
وكما يشير الكاتب جايمس بار في كتابه الأنف الذكر، قام كيم روزفلت بزيارات عديدة الي القاهرة ، وبيروت ،وعمان ،وطهران أواخر الأربعينات ، وعن طريق الدبلوماسي في السفارة الأمريكية في القاهرة مايلز كوبلاند (الذي كان يعمل ضَابط في المخابرات المركزية الأمريكية ) تعرف كيم روزفلت على الضَابط ذو الرتبة المتوسطة في الجيش المصري جمال عبدالناصر ، والذي كانت تربطه علاقة صداقة بالدبلوماسي كوبلاند .
قام روزفلت بإستقطاب جمال عبدالناصر ، للعمل مع المخابرات المركزية الأمريكية عام ١٩٤٩م عقب عودته من السودان ،وابتكركيم روزفلت وخبراء المخابرات المركزية تنظيم أُطلق عليه (تنظيم الضُباط الأحرار )، وطَلب روزفلت من جمال أن يقوم بتجنيد من يثق بهم من ضُباط الجيش الي هذا التنظيم ،عن طريق ما يُطلق عليه “الإستقطاب الخيطي “، بمعنى أن على كل ضَابط أن يستقطب ضَابط واحد فقط.
خلال فترة وجيزة ،تمكن جمال عبدالناصر،من تجنيد مجموعة لا بأس بها من ضُباط الجيش من مختلف أفرع القوات المسلحة ، وفي نفس العام (١٩٤٩م)،وإستجابةً لطلب كيم روزفلت قدّم عبدالناصرقائمة تضم أسماء ستة من الضُباط الذين تم إستقطابهم للتنظيم ، وقامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بإضافتهم الي قائمة مكونة من خمسين ضابطاً مصرياً ،دُعوا بعد ذلك للتدريب في الولايات المتحدة عبرالقنوات الرسمية .
من هؤلاء الستة ، الضَابط في سلاح الجو المصري علي صبري ، والذي أمضى ستة أشهر في دورة إستخباراتية تابعة للمخابرات المركزية الأمريكية في ولاية كولورادوالأمريكية ، وقد تقلّد في عهد عبدالناصر عدة مناصب حساسة ومهمة منها ( نائب رئيس الجمهورية ،رئيس الوزراء ، وزير شؤون رئاسة الجمهورية، وزير الإدارة المحلية، رئيس المخابرات العامة،رئيس الإتحاد الإشتراكي ) وكان مقرباً من جمال عبدالناصروله دورمؤثر في صياغة وتنفيذ السياسات التي تبناها النظام في تلك الفترة .
خلال الفترة من عام ١٩٤٩م وحتى الإطاحة بالملك فاروق في يوليو عام ١٩٥٢م ، قامت وكالة المخابرات المركزية الآمريكية ، عن طريق عملائها في المؤسسات الإعلامية والصحفية ، ومنظمات المجتمع المدني ، داخل مصر ،وبإيعاز من قيادة تنظيم الضُباط الأحرار ببث حملات دعائية منظمة ضد الملك ، إتهمته بالفساد المالي والإداري ، والأخلاقي ، كما روّجت انه تسبب بهزيمة ١٩٤٨م ، وأن حكومته وراء تسليح الجيش المصري بالأسلحة الفاسدة . تمهيداً لإنقلاب ٢٣يوليو ١٩٥٢،وحشداً للمبرّرات أمام الشعب .
وقد أكدت مصادر أخري ،أن الملك فاروق لم يكن فاسد أخلاقياً كما روج عملاء المخابرات الأمريكية وتنظيمهم المسمى “الضُباط الأحرار “،وهو ما أكدته الملكة فريدة بعد” طلاقها “، كما أن خدعة الأسلحة الفاسدة ، إنكشفت بعد ذلك ،والتي كانت من المبررات الرئيسية للإطاحة بالملك فاروق،عندما تم تبرئت المتهمين في القضية من النيابة العامة التابعة لنظام عبدالناصربعد إنقلاب ٢٣يوليو١٩٥٢م، وأشارعبد الناصرالي ذلك بنفسه في كتابه (فلسفة الثورة) ،.
فقد تبين لنيابة عبد الناصر أن الأسلحة التي إستوردها الجيش لحرب ١٩٤٨ م، لم يُستخدم منها سوى ١٠% والبقية مازالت موجودة في المخازن ، وال١٠% الذي تم إستخدامه ، أصابه العطب، ليس بسبب فساده ،ولاكن بسبب نقص التدريب وعدم القدرة على إستخدامه.
إستغلت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فرصة إلغاء الملك فاروق العمل بإتفاقية ١٩٣٦م مع بريطانيا، والتي تتضمن وجود قواتهم في قناة السويس ، في أكتوبر ١٩٥١م ، فصعّدوا التوتر في الشارع المصري ،ضدّ التواجد البريطاني ، ليس حباً في إنعتاق الشعب المصري من أتون نار المستعمر الإنجليزي ، ولاكن في إطار الصراع الأمريكي _البريطاني ، للإستحواذ على مراكزصناعة القرار في الشرق الأوسط.
أدى لهيب التوتر في الشارع المصري الذي أشعلته المخابرات الأمريكية ، الي قيام بعض عناصرهم من ” تنظيم الضُباط الأحرار” في القوات الأمنية المصرية ، بمهاجمة القوات البريطانية ، وقتل عدد منهم ،أعقبها في ٢٥ يناير١٩٥٢م، حصار للقوات الإنجليزية لمقر الشرطة في مدينة الإسماعلية ، وكانت مطالب القوات البريطانية ، تسليم الأسلحة ، وإخلاء مقر الشرطة ، ولاكن أوامر المخابرات الأمريكية كانت بعدم الإمتثال لمطالب الإنجليز، وأشتعلت المواجهة بين الطرفين ، وقتل أكثر من خمسين من رجال الشرطة المصرية .
في اليوم التالي ٢٦يناير ١٩٥٢م، قامت وكالة المخابرات الأمريكية ، بإشعال فتيل الأزمة في القاهرة ، وتحرك عناصرها من تنظيم “الضُباط الأحرار ” والمواليين لهم ( تنظيم الإخوان المسلمين )، وأغرقوا القاهرة في الفوضى ، وتم حرق عدد كبيرمن المؤسسات و الفنادق والبنوك ودور العرض ومعارض السيارات والمساكن ، وقُتل الكثير من الأبرياء من بسطاء الشعب المصري ، في إطار المُضى قُدماً في صناعة قيادة جديدة لمصر ، والإطاحة بالمستعمر القديم (بريطانيا والتي كانت تتفاخر دوماً بأنها من تصنع الملوك في مصر والشرق الأوسط )، .
وفي إطار خيانة وهرولة ” الضُباط الأحرار” للخروج من مستنقع المستعمر القديم ، والسقوط في بحر المستعمرالجديد ” الولايات المتحدة”، وكما أشار جايمس بار في كتابه ( سادة الصحراء) ، تم اللقاء سراً في قبرص في يونيو عام م١٩٥٢(قبل الإنقلاب بشهر) بين كيم روزفلت مدير عمليات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ، وممثلين عن ” تنظيم الضُباط الأحرار” وهم( محمد أنور السادات _ خالد محي الدين _حسن ابراهبم )، من أجل وضع اللمسات الأخيرة لإنقلاب ٢٣يوليو ١٩٥٢م،…(يتبع)