أمد/ ‏منذ أن همسَ الفجرُ …

‏في أذنِ الأرض،

‏ومنذ أن سالت …

‏أولُ دمعةٍ في حضنِ الأمهات،

‏والمبدعونُ والثوارُ …

‏يكتبون أسماءَهم …

‏على جدرانِ الخلود…

‏لا يمحوهم ليلٌ،

‏ولا تغمرهم مياهُ النسيان…

‏***

‏هم الأحرار…

‏حيث يرحلُ الجسدُ …

‏ ويظلُّ الصوت،

‏وحيث يذبلُ العمرُ …

‏ ويزهرُ الحُلم،

‏وحيث تُقيَّدُ اليدُ …

‏ لكن يفرُّ الفكرُ …

‏طليقًا،

‏ كالنهرِ ..

‏ لا يوقفه سدٌّ ولا جدار …

‏***

‏خالدون…

‏في صرخةِ يتيمٍ …

‏ يشدُّ على كفه حجرًا،

‏في نظرةِ أمٍّ …

‏تمسحُ غبارَ القصفِ …

‏عن وجهِ وليدها،

‏في قصيدةٍ …

‏ تكتبها الدماءُ …

‏ على ترابِ الوطن،

‏وفي زيتونةٍ …

‏عجوزٍ شامخةٍ …

‏ترى الممالكَ …

‏تنهارُ من حولها …

‏ولا تنحني …

‏***

‏لأنهم ثاروا على الصمت،

‏وأشعلوا قناديلَ المعنى …

‏ في ليالي العتمة،

‏وحملوا قلوبَهم …

‏ مشاعلَ تضيءُ الدروب،

‏فتفتحتْ من تحتِ أقدامِهم …

‏أزهارُ الفجر،

‏وانكسرتْ على أعتابِهم …

‏سلاسلُ العبودية …

‏***

‏خالدون…

‏كأنهم الفجرُ …

‏يخرجُ من خاصرةِ الليل،

‏كأنهم الطيورُ …

‏تهاجرُ عبرَ اللهيب ولا تحترق،

‏كأنهم النهرُ كلما سُدَّ طريقُه …

‏شقَّ لنفسه مجرى جديدًا،

‏فيظلُّ جاريًا…

‏إلى أن يعانق البحر …

‏***

‏ما دام الأملُ …

‏ يغرسُ راياته في القلوب،

‏وما دام النصرُ يقتربُ إلينا …

‏كما يقتربُ الصبحُ …

‏من نافذةٍ عطشى،

‏وما دام الدمُ …

‏ينبتُ وردًا …

‏على حوافِّ الجراح،

‏فإن فلسطينَ باقية،

‏والثوارَ باقون،

‏والمبدعونَ باقون…

‏إلى أن يكتملَ الصبحُ …

‏ويشرقَ الوطن …!

………………………………………

‏د. عبد الرحيم جاموس

‏الرياض / الأربعاء

‏17/9/2025 م

……………………………..

‏قراءة أدبية ونقدية ممتعة بقلم الأستاذ الدكتور عادل جوده المحترم في نص “خالدون…” للدكتور عبد الرحيم جاموس

‏‏يمثل النص قصيدة نثرية ذات حساسية عالية، تُجسّد روح المقاومة والصمود، وتخلد ذكرى المبدعين والثوار الذين يضحون من أجل قضيتهم ووطنهم.

‏يمتزج فيه البعد الإنساني العام بالهمّ الفلسطيني الخاص، ليرسم لوحة ملحمية عن الخلود في وجه الظلم والنسيان.

‏أولاً: العنوان والعتبة النصية

‏•° العنوان (“خالدون…”): يحمل العنوان دلالة قوية ومباشرة، فهو يشير إلى الخلود والبقاء في الذاكرة والتاريخ، مقابل فناء الجسد. علامة الحذف (…) تفتح الباب للتأويل والتساؤل: من هم هؤلاء الخالدون؟ ولماذا هم كذلك؟ مما يخلق تشويقاً قوياً لدى المتلقي.

‏•° التأريخ (17/9/2025 الرياض): إضافة تأريخ مكاني وزماني مستقبلي (في وقت كتابة النص) يعطي النص بُعداً تنبؤياً ونبوئياً، وكأنه نصب تذكاري مسبق لأولئك الأبطال، ويؤكد ثقة الشاعر بحتمية بقائهم وانتصار قضيتهم.

‏‏ثانياً: المحاور الموضوعية والرؤية

‏يدور النص حول محور رئيسي هو “الخلود عبر التضحية والإبداع”، ويتفرع إلى عدة أفكار:

‏‏١ الخلود ضد النسيان: يُصور النص الثوار والمبدعين كقوة أبدية (“لا يمحوهم ليلٌ، ولا تغمرهم مياه النسيان”)، يقفون في مواجهة قوى الظلام والنسيان (الليل، المياه).

‏ ٢ انتصار الروح على الجسد: يكرس النص ثنائية فناء الجسد/بقاء الأثر (“يرحل الجسد ويظل الصوت”، “يذبل العمر ويزهر الحلم”).

‏ الخلود هنا ليس في الجسد المادي، بل في الفكرة والصوت والحلم والفكر الحر.

‏٣ تجسيد الخلود في التفاصيل الصغيرة: لا يرتبط الخلود بالأعمال البطولية الضخمة فقط، بل يتجلى في المشاهد الإنسانية اليومية المؤثرة: “صرخة يتيم”، “نظرة أم”، “زيتونة عجوز شامخة”.

‏هذا يربط البطولة بالحياة والشعب نفسه، لا بالأفراد فقط.

‏٤ استعارة فلسطين: رغم أن النص يبدأ عاماً، إلا أنه يتجه صوب القضية الفلسطينية بشكل واضح في المقطع الأخير، ليجعل من فلسطين والثوار من أجلها النموذج الأبرز لهذا الخلود.

‏النص هو قصيدة للقضية الفلسطينية تتخذ من اللغة سلاحاً ووسيلة للخلود.

‏‏ثالثاً: الخصائص الفنية والأسلوبية

‏١ البناء الفنّي: النص مكتوب على شكل مقاطع (مقاطع) شعرية حرة، تخلو من الوزن التقليدي ولكنها تحافظ على إيقاع داخلي قوي عبر التوازن في الجمل والتكرار.

‏٢ الصورة الشعرية: يتميز النص بغنى الصور الشعرية المبتكرة والقوية التي تعتمد على:

‏ ·√ المجاز: “يكتبون أسماءهم على جدران الخلود”، “الدم ينبت ورداً”، “يقترب الصبح من نافذة عطشى”.

‏ · √الكناية: “يمسح غبار القصف عن وجه وليدها” كناية عن الحماية والأمومة في زمن الحرب.

‏ · √التشبيه: يشبه الثوار بالفجر والطيور المهاجرة والنهر، وهي تشبيهات تدل على التجدد والتحدي والاستمرارية.

‏٣ الرمزية: يستخدم الشاعر رموزاً قوية تحمل دلالات متعددة:

‏ · الليل، العتمة: رمز الظلم، القهر، الاحتلال.

‏ · الفجر، الصبح: رمز الأمل، التحرر، النصر.

‏ · النهر: رمز الاستمرار والعطاء والتحدي.

‏ · الزيتونة: رمز الصمود الفلسطيني والأرض والتجذر.

‏ · الحجر: رمز المقاومة الشعبية.

‏٤ التكرار: يستخدم الشاعر التكرار لإيقاع موسيقي وتأكيد المعنى، مثل تكرار “خالدون”، “باقون”، “يكتبون”، “كأنهم”، “وما دام”.

‏٥ اللغة: لغة شاعرية رفيعة، تجمع بين الرقة والعنفوان. تستخدم مفردات من حقل النور (الفجر، قناديل، مشاعل) وحقل الظلام (ليل، عتمة) وحقل المقاومة (ثوار، دماء، حجر، سلاسل).

‏‏رابعاً: الإيحاء والدلالة

‏النص ليس مجرد(وصف) للثوار، بل هو دعوة للفعل ومصدر للإلهام. يحاول الشاعر أن يزرع الأمل في نفس القارئ ويذكّره أن التضحية لا تذهب سدى، وأن الفكر الحر لا يقهر.

‏ إنه نص يحاول أن يخلق من اللغة فضاءً للحرية ومن الذكرى سلاحاً للمستقبل.

‏‏خامساً: الخاتمة

‏”خالدون…” هو نصٌ حافل بالشحنات العاطفية والرمزية، يتحول فيه الشعر من كونه تعبيراً جمالياً إلى فعل مقاوم بحد ذاته.

‏ يصوغ الشاعر عبر كلماته نصباً تذكارياً خالداً لأولئك الذين يكافحون من أجل الحرية والكرامة مؤمناً أن أفكارهم وأحلامهم وتضحياتهم هي البذور التي ستحقق النصر الواعد في النهاية، حيث “يكتمل الصبح ويشرق الوطن”.

شاركها.