حين يولد الإبداع..من رحم الألم
أمد/ هذا المقال مهدَى حصريا إلى الشاعرة الفلسطينية المغتربة الأستاذة عزيزة بشير التي قاومت الغربة والإغتراب بصبر الأنبياء..وظلت صامدة وشامخة كقبة الصخرة*..وظل شعرها نفحة من ذلك العبق السماوي العذب..
“أعوذُ باللهِ مِن عشْرٍ تُراقُ بِهِم
أزكى الدِّماءِ بِأرضِ الحَقِّ ….في (غزّهْ) “
( الشاعرة الفلسطينية أعزيزة بشير )
تصدير:
“إذا لم تكن لديك رغبة في القراءة،فأنت لم تحصل على الكتاب الصحيح”
هكذا تقول الكاتبة البريطانية ج.ك.رولينغ، وكأنها ترمي على أن الكُتاب ينبغي عليهم درس نفسية القارئ..
“أنا أتألمُ بينما أنتم تَمدحونَ كتاباتي”… كافكا
وأنا أقول :
سنظل نكتب بحضور الفكر والضمير أيضا،وسنظل كذلك على استعداد للشهادة من أجل ما نعتقد أنه الحق.ورغم أنهمحرموا علينا حتى حق الإستشهاد،واحتكروا لأنفسهم “بطولة الرأي الواحد” التي سنبقى نرفضها..ولو لم نجد غير أظفارنا،وجدران المقابر أدوات للكتابة والنشر..
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ إن الكتابة تسكن الكاتب،فتصبح وجوده الذي يتحرك، وكيانه الذي يتماهى،فيغدو الكاتب مفتونا بالكتابة مهووسا بها. وحينما يعمد إلى الكتابة فإنه يجد متعة ولذة منقطعتي النظير،لا يحس بهما غيره،وذلك لأن ما يكتبه ليس شيئا منفصلا عن ذاته وكيانه، بل إن ما يكتبه متصل بذاته الإنسانية،وبعواطفه،وبمشاعره وأحاسيسه،بمعنى أن الكتابة تشكل بالنسبة للكاتب الكل في الكل،فهي ليست فقط وسيلته لمحاكاة الواقع والأحاسيس،ولكنها أيضا غايته المنشودة وهدفه الأسمى.ومن ثمة فهناك قوة دفينة ومحرك لا مرئي يدفع الكاتب نحو بحر الكتابة،ألا وهو الشغف والحب والهوس بالكتابة.
وهنا أضيف:
إن الكاتب يحرص دوما على مراعاة الجانب الجمالي في كتاباته،وهذا الجانب الجمالي يتحقق بمجموعة من العناصر والخصيصات، على رأسها الفكرة؛ فالنص أو الكتاب أو المقال لا يمكن أن يجذب القارئ إلا إذا كان ذا فكرة هادفة، والكاتب البارع هو الذي يتناول الأفكار الهادفة ويعرضها في يسر وسهولة، لأنها الأساس الذي لا يستقيم النص إلا بوجوده وتواجده، وكل نص لا ينطوي على فكرة هادفة يكون مصيره الهجر والنسيان.
ولكن..
الأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع :
أنكتبُ لأنفسنا أم للآخرين؟ أندافعُ بكتاباتنا عن بؤسِ العالم وبؤس الوطن أم أنَّ الأمر برمته لا يعدو كونه تسريبات لمعركة النفس الداخلية؟
ترى أيستحقُ العالم من الأساس أن يُفني أحدهم العمر من أجل الكتابة عنه وعن بؤسه اللامتناهي؟
أيستحق العالم كتابات ماركيز وبن نبي ودستوفيسكي وبيجوفيتش وكامو وكونديرا وغيرهم؟ اقرأ العالم يوماً صفحة واحدة مما كتبوه بعقل الواعي المتدبر الباحث عن الحقيقة وعن التغيير؟ ولماذا نكتب من الأساس إذا كان وقع الواقع ووطأته أكبر من حجم كلماتنا؟
وما وسعُ اللغة أن تفعله أمام سيلٍ من تدفقات الحياة اليومية التي لا تنتهي إلا بنهايتنا؟
وهنا أذكّر القارئ الكريم والقارئة الفاضلة بما قاله ديستوفيسكي في كتابه المراهق: “إن شفيعي الوحيد في ما أفعله الآن هو أن الذي يحدوني إلى الكتابة ليس ما يحدو إليها سائر الناس :إنني لا أكتب بغية الحصول على إعجاب القارئ و مديحه،إنما تدفعني لذلك حاجة داخلية، واستخراج ما تنطوي عليه نفسي من الأمور المعيبة و الوضيعة “.
فديستوفيسكي يجد في الكتابة تنفيساً عن معاناته الداخلية،وصراعه الداخلي،وهذا هو دور الكتابة وفق تصوره..
قبل ستة عقود كتب ألبير كامو «إن دور الكاتب لا يخلو من المهام الصعبة. ولا يستطيع أن يضع نفسه اليوم في خدمة أولئك الذين يصنعون التاريخ، فهو في خدمة أولئك الذين يعانون من التاريخ.»
يرى كامو في الكتابة ليس فقط مواساة لحظية أو شخصية لمن يعانون في لحظة ما،بل إنه يرى فيها مواساة للتاريخ،تاريخ المهمشين والضعفاء،تصبح الكتابة هنا صوت من لا صوت له، صوت لأولئك الذين عانوا ويعانون من سويداء قلوبهم ولم يسمع بهم أحد. الكتابة بهذا التصور هى صوت المنسيين. ضحايا التاريخ الذي لا يحترم إلا الأقوياء.
وهنا يطرَح السؤال التالي الذي ورد على لسان الدالاي لاما:
هل على الإنسان أن يكون حزيناً أو مرهقاً أو محبطاً كي يترجم معاناته على شكل إبداع معين؟ أم أن السعادة هي التي تعطي الطاقة اللازمة للإبداع؟
في محاضرة ألقاها بجامعة إيموري بولاية جورجيا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2010،تحدث الدالاي لاما وهو القائد الديني الأعلى للبوذيين التيبتيين،عن رحلة الإبداع والروحانية ومدى علاقتها بالحالة النفسية، فهل على الإنسان أن يكون حزيناً أو مرهقاً أو محبطاً كي يترجم معاناته على شكل إبداع معين؟ أم أن السعادة هي التي تعطي الطاقة اللازمة للإبداع؟
ووفق اقتباس تنقله الكاتبة شارون سالزبرغ عن الدالاي لاما،فإنه يعتبر بأن “الناس في الغرب يميلون عموماً للاعتقاد بأن الإبداع يتولّد من العذاب، في حين تسود اعتقادات مخالفة في الشرق حول علاقة الفن العظيم بدرجة التوازن والوعي داخل الإنسان”
وهنا يتوضح التمايز بين مفهومين مختلفين سائدين فعلاً في عالمنا: فهناك أشخاص يتشبثون بالتعاسة والمعاناة اعتقاداً بأنها ميزة تتيح لهم الإبداع أكثر،وبأن السعادة مجرد إحساس ممل لا يحفّز على الإنتاج؛وآخرون يميلون للتفكير بأن السعادة والراحة هما مصدر الطاقة والعطاء والإبداع،فالإحباط لا يترك أي مجال للتعبير والعمل على إحداث أي تغيير مهما كان بسيطاً.
حين تولد الكتابة من رحم الألم:
يرى البعض أن الكتابة تراجيديا،لا يميزها عن تراجيديا صاحبها «شيء»،بالنظر إلى طبيعة شخصيته ومزاجه وفلسفته في الحياة.
الكتابة تصير مرادفة للألم،هنا،مادامت تطابق شخصية مؤلفها،بما يسكنها من قلق (وجودي)، ورفض وتمرد وتوق إلى المغامرة والمخاطرة (بالنفس حتى).الكتابة تضحى،بصيغة مجازية، «إشرافا من أعلى الحافة».والنموذج الأوضحفي تقديريهو أبو العلاء المعري،الذي يصعب على الدارس التمييز بين سيرة شخصه وسيرة قصيدته.وتبدو «داليته»،في رثاء أبي حمزة، أكثر تعبيرا عن شخصيته،وسوء ظنه بالإنسان والحياة عامة..
غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنم شاد
وشبيهٌ صوت النعيّ
إذا قِيـس بصوت البشير في كلّ ناد
أبَكَت تلكم الحمامة
أم غـنّت على فِرْعِ غُصنٍها الميّاد
ختاماً،التصور السابق للمعاناة كمحرك أساسي للكتابة،لا يعني بالضرورة أنّ المعاناة هي السبب الأوحد الذي يدفعنا للكتابة،وأنه لا توجد أسباب أخرى نكتب من أجلها.
فللكتابة أسباب مختلفة،وللكُتابِ هيئات وأحوال شتى يكتبون فيها،فمنهم من يكتب عند الفرح، وعند السعادة،منهم من يكتب على صوت الموسيقى وغيرها من الهيئات.
لكن ما أريد أن أوضحه وأقرره في هذا المجال.أن تلك الكتابة التي تنبع من رحم المعاناة هي الأجدر على البقاء،وأجدر على أن يتلقاها القارئ بقلبه قبل أن يعيها بعقله.
وأخيرا،الكُتاب هم أكثر الناس عرضة للإكتئاب،فالكاتب يعيش القصة في لحظة التفكير،وأثناء الكتابة،ووقت المراجعة.
الكاتب يلجأ إلى الكتابة ليفرغ ما يحزنه غير أن لا شيء يحزنه سوى الكتابة،فيستمر في نهجها وكأنه يداوي الداء بالداء”.
ولكن..
الوصول لحالة من الإبداع،مهما كان مجاله،يتطلب توافر العديد من الظروف الذاتية والموضوعية،أولها الموهبة الحقيقية التي لا مناص من تواجدها،ومن ثم الفرص المؤاتية للتطور والعمل،والبيئة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية المستقرة،وظروف الحياة التي تبعث على الاطمئنان والراحة.
على سبيل الخاتمة :
لم تحمل القصائد وطنا وأرضا كما حملت فلسطين،كانت القضية عنوانا رئيسيا للمدونة الشعرية الفلسطينية والعربية في العقود الماضية،وكما جعل الشعر فلسطين بوصلته،رفعت فلسطين أيضا شعراءها إلى ذرى عالية من الإبداع والشهرة والمجد.
أنبتت الأرض والقضية والوطن السليب أجيالا من الشعراء،في حقبة شديدة الخصوبة على المستوى السياسي والفكري والاجتماعي،وكانت المحبطات العديدة من النكبة إلى النكسة إلى جرائم الاحتلال والمنفى محرضا على القول والكتابة ونسج خيوط تجربة شعرية متفردة تحت عنوان “فلسطين”. على غرار القصيدة التالية التي نحتتها بحبر الروح أنامل الشاعرة الفلسطينية المغتربة الأستاذة عزيزة بشير :
شُرَكاءُ في مجازرِ غزّة
أعوذُ باللهِ مِن عشْرٍ تُراقُ بِهِم
أزكى الدِّماءِ بِأرضِ الحَقِّ ….في (غزّهْ)
كلٌّ تَراهُ بِشيْطانٍ عليْهِ بَدتْ
آثارُ جُرْمِهِ كالغيلانِ….……….في بَزّهْ
فالعيْنُ تقطُرُ مِن قتْلِ الرّضيعِ، دَماً
والفمُّ كهْفٌ لِلَحْمِ الطّفلِ ،…. في جَزَّهْ
شيْطانُ ، جزّارُ كلٌّ يستبيحُ بهِ
قتْلَ العِبادِ، شَرابَ الدّمِّ،…….مِنْ غَزّهْ !
كلٌّ يُحاسَبُ عن جُرمٍ بِمَجزَرَةٍ
ماذا فعلتُمْ بأهلِ الحَقِّ ……..والعِزّهْ؟
قتْلٌ وحَرْقٌ وتَجويعٌ ومجزَرَةٌ
حربُ الإبادةِ يا غيلانُ ………..في غزّهْ!
ألكلُّ شرَّعَ للصّهيونِي قتْلَتَهُم
مِنْهُ السِّلاحَ يدُكُّ الأرضَ …….في هَزّهْ
كيفَ اجترأتُمْ؟شعوبُ الأرضِ تمقُتُكم
فالأرضُ أرضُهُ يا غيلانُ ………في غزّهْ
(قسّامُ)يدفعُ عن أرضٍ، لُصوصَ لها
هلْ هذَا إرهابُ ،يا جزّارُ ،…….قد فزَّ؟
في أيِّ ملّةِ أوْ دينٍ ، نُصنِّفُكم؟
لا دينَ يُنبِئُ جزّارينَ ، ………….لا عِزّهْ
كلٌّ لُصوصٌ ، يريدُ الغازَ ثروتَهمْ
شعبٌ يُبادُ لذاكَ الغازِ ………..في غزّهْ
أللهُ يُجزي ، يمَنْ ،لبنانُ يضرِبُكُم
أهلُ العِراقِ مَعَ القسّامِ عن ضِفَّهْ وعنْ غزّهْ
(غزّا )(وضِفّةُ) معْهَا اللهُ فارتَقِبوا
زِلزالَ ربٍّ يهُزُّ عِروشَكُم …………..هزّا !
الشاعرة عزيزة بشير
ويبقى في الأخير لكل واحد من شعراء فلسطين التاريخية مساهماته،وذوقه ولونه الشعري،وهم سوية يشكلون سيمفونية أدبية واحدة.
*مصلى قبة الصخرة أحد أجزاء المسجد الأقصى”فالمسجد الأقصى هو كل ما داخل سور الأقص”،وهو جزء من أحد أهم المساجد الإسلامية في مدينة القدس وفلسطين والعالم الإسلامي، ومن أجمل الأبنية في العالم،إذ تُعتبر قبّته من أهم وأبرز المعالم المعمارية الإسلامية،كما يُعتبر أقدم بناء إسلامي بقي مُحافظا على شكله وزخرفته.