أمد/ كشفت صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية مؤخرا، أن الولايات المتحدة تنوي فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي أثار قلق المحكمة وموظفيها، علمّا بأن بنيتها التحتية ترتبط تقنيّا بالمورّدين الأمريكيين. ولعلّ أحد الأسباب الأساسية هو أن المحكمة تجرأت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 على إصدار مذكرتي اعتقال بحق بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بسبب شنّ إسرائيل حرب إبادة على غزة وبقية الأراضي الفلسطينية.

فمنذ أن تولّى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سدّة الرئاسة، وهو يعلن جهارا نهارا أنه لا يتورّع عن فرض عقوبات على كل من يعارض الولايات المتحدة، وهذه أحد تجليات السياسة الراهنة، التي اتبعتها واشنطن لفرض نهجها مع حليفتها إسرائيل على العالم. وتستمرّ سياسة ترامب ودبلوماسيته الدولية بالتقليل من شأن الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية، وقد قامت بحرمانها من جزء غير قليل من الدعم المالي، وذلك بهدف فرض الهيمنة الكليّة عليها وتهميشها، بحيث تصبح سياستها نسخة أخرى من سياسات واشنطن، والأمر يشمل المحكمة الجنائية الدولية، حتى قبل حرب الإبادة على غزة، لكي يفلت المرتكبون من العقاب، الأمر الذي يستبعد مساءلة الجنود الأمريكيين المتهمين بارتكاب جرائم ترقى إلى جرائم حرب، وكذلك ارتكابات إسرائيل المتكرّرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وما يزيد قلق المحكمة الجنائية الدولية هو توقعها قيام واشنطن بقطع خدماتها التقنية والمصرفية، ولذلك فهي تسعى لإيجاد بدائل عنها، بما فيها تأمين رواتب الموظفين حتى نهاية العام الجاري. الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة، فرضت عقوبات في وقت سابق على أفراد (قضاة ومدّعين)، وهي اليوم تدرس إمكانية فرض عقوبات على المحكمة برمّتها.

وكانت واشنطن في 13 شباط/ فبراير 2025 قد فرضت عقوبات على المدّعي العام للمحكمة كريم خان، بعد أيام من توقيع الرئيس ترامب أمرا تنفيذيا يقضي بمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية لإصدارها مذكّرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت. وبالطبع هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها واشنطن المحكمة الجنائية الدولية، التي تأسست في روما وأُبرم ميثاقها فيها عام 1998، فقد ناصبتها العداء منذ قيامها، ودعت الدول إلى عدم الانضمام إليها، وقبل انتهاء المدة المحدّدة للانضمام العام 2000، انضّمت إليها قبل دقائق من إغلاق باب الانضمام لتصبح دولة مؤِّسسة، وتبعتها إسرائيل، لوضع عراقيل وألغام في ميثاقها، وخصوصا الامتناع عن مساءلة جنودها عن ارتكابات محتملة يمكن أن تقوم بها، مستبعدةً اعتبار الاستيطان جريمة دولية، وكذلك جريمة شن الحرب والعدوان، وحين اكتمل توقيع 60 دولةً عضوا وتصديقها على المعاهدة، كما تقتضي مدوّنتها، انسحبت منها الولايات المتحدة في اليوم التالي وتبعتها إسرائيل، وذلك حين دخلت حيّز النفاذ في 1 تموز/ يوليو 2002. كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المدّعية العامة السابقة في المحكمة الجنائية الدولية السيدة فاتو بنسودا، التي أعربت عن نيتها في إجراء تحقيق بخصوص جرائم الحرب، التي شنّتها الولايات المتحدة على أفغانستان، والتي تشير إلى تورّط جنود أمريكيين، كما فرضت عقوبات على أحد القضاة في مكتبها. ومنذ اليوم الأول للمناقشات بشأن ميثاق روما، حاولت واشنطن وضع العصي في عجلة المحكمة، مستفزّة دولّا مثل إيطاليا وفرنسا والعديد من الدول الأوروبية المتحمّسة لإنشاء المحكمة وإبرام ميثاقها، ومن جملة اعتراضات واشنطن على الميثاق، اعتباره مليئا بالعيوب، وينبغي أن تخضع المحكمة لمجلس الأمن الدولي الذي تمتلك فيه «حق الفيتو».

وكان الكونغرس قد دعا إلى إقرار قانون أطلق عليه «قانون حماية أعضاء الخدمة الأمريكية»، وهو ما عُرف بقانون الضد من قانون لاهاي، واعتبر الكونغرس ميثاق المحكمة يمثّل خطرا ليس على الولايات المتحدة فحسب، بل على الرئيس الأمريكي، وكان هذا الأخير قد أكّد أن أي حالة اعتقال أو احتجاز من جانب المحكمة الجنائية الدولية لأي من الأشخاص الذين تشملهم الحماية الأمريكية، يحق للرئيس الأمريكي استخدام جميع الوسائل الضرورية المناسبة لإطلاق سراح المعتقل أو المحتجز، سواء لدى المحكمة الجنائية الدولية أو من ينوب عنها، ومثل هذه النصوص عادة ما تدخلها الولايات المتحدة في الاتفاقيات الدولية التي توقّعها مع الدول، لاستثناء الجنود الأمريكيين من المساءلة، وهو ما ورد في المعاهدة العراقية ـ الأمريكية، التي تم التوقيع عليها في عام 2008. وإذا كانت وظيفة القضاء تحقيق العدالة ومساءلة المذنبين أو المخالفين للقواعد القانونية، فإن واشنطن وضعت نفسها فوق القضاء الدولي، وهي التي قامت بمعاقبته، لأنه أراد تحقيق العدالة، وإن بحدّها الأدنى.

القدس العربي

شاركها.