اخر الاخبار

حين يصبح التحيّز فريضة والتجاهل سياسة!

أمد/ في زمنٍ صار فيه الإعلام سلاحًا، ومنصّات التواصل الاجتماعي ساحة معركة، لا عجب أن تجد نفسك تغوص في بحرٍ من التحيّز، حيث لا صوت يعلو فوق صوت “السيستم” الذي يقرر لك من يجب أن تُعجب به، ومن يجب أن تُدير له ظهرك. خذ فيسبوك على سبيل المثال: إذا كنتَ تعتقد أن هناك مساحة للنقاش الحرّ حول قضايا الشرق الأوسط، وبالأخص القضية الفلسطينية، فأنت إما ساذج، أو لم تجرّب فعليًا النشر عن هذه المواضيع.

بينما يختنق الفلسطينيون تحت القصف، وتهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وبينما تُرسم السياسات العالمية بدماء الأبرياء في غزة والضفة، لا مكان للحديث عن ذلك في خوارزميات فيسبوك، التي تُسرع بحذف أي منشور “يجرح مشاعر” الاحتلال، أو حتى يخدش صورة الغرب المتحضر الذي يقف متفرجًا، بل متواطئًا. أما الحديث عن ترامب؟ فحدّث ولا حرج! الرجل حاضر في كل زاوية، كل تعليق، كل “تريند”، وكأنه إله الإعلام الجديد، لا يجوز التشكيك به، ولا حتى التعبير عن ضجرنا منه!

تفتح فيسبوك، فتجد أمامك جيشًا من الصفحات والمجموعات والمقالات التي تمجّده، رغم أنه، وبشهادة أقرب حلفائه، عنصري لا يرى العالم إلا من خلال عيون مصالحه. حتى منصات الإعلام الكبرى التي تدّعي الموضوعية، تُحابي هذا التوجه، إذ يكفي أن تُقارن بين طريقة تعاطي الإعلام الغربي مع تصريح عنصري من ترامب، وطريقة تغطيته لأي موقفٍ لشخصية عربية أو مسلمة، لتفهم أن هناك قاعدة ذهبية واحدة: “حرية التعبير مقدسة.. إلا إن كانت ضد مصالحنا.”

والسؤال هنا: لماذا هذا التواطؤ الإعلامي؟ لماذا يبدو أن هناك حملة منظمة لمحو أي نقاش جاد عن فلسطين والشرق الأوسط، بينما تُفتح كل الأبواب لمنصات تمجّد ترامب وتجمّل خطاياه السياسية والعنصرية؟

الإجابة ليست معقدة. ببساطة، الإعلام منصات رأسمالية، والمال يُحرّك السياسات التحريرية أكثر من الحقيقة. في عصر المال الرقمي، من يدفع أكثر يربح الرواية، ومن يملك النفوذ يسيطر على العقول. لهذا، يصبح الحديث عن العدالة مجرد ديكور إعلامي، وحين يتعلق الأمر بفلسطين، يتحوّل هذا الديكور إلى مشجب يُعلَّق عليه خطاب “محاربة الكراهية”، الذي يُستخدم في الحقيقة لمحاربة أي صوت يرفض الظلم.

لا عجب إذن أن ترى فيسبوك وإنستغرام وتويتر (أو X إن كنتَ لا تزال مهتمًا بالمظاهر الجديدة) وقد صارت جميعها وكأنها أذرع رقمية تُعيد إنتاج صورة العالم كما يريدها المتنفّذون. الحديث عن فلسطين؟ يُقابل بالحظر والتقييد وتقليل الوصول. الحديث عن ترامب؟ مسموح، بل ومحبّب، شرط أن يكون في سياق التمجيد.

أما نحن؟ فقد أصبحنا غرباء على منصاتنا الخاصة، نبحث عن هوامش صغيرة نُدوّن فيها الحقيقة، قبل أن تمتد يد الرقابة الرقمية لتمحوها، بذرائع “المعايير المجتمعية” و”مكافحة خطاب الكراهية”. كأنّ الكراهية لا تُعرّف إلا إذا كانت موجهة ضدهم، أما حين يقتل الاحتلال أطفالًا في فلسطين، فذلك شأنٌ سياسيٌ “معقّد”!

في النهاية، يبقى السؤال: إلى متى سنظل نُطارد “الظلّ” في هذا العالم الرقمي؟ متى نخلق بدائلنا، ونكفّ عن البكاء على أطلال منصات لا تريد لنا صوتًا؟ متى يكون لنا في الإعلام سلطة، لا مجرد فتات مسموح به على هامش العرش الأمريكي؟

حتى ذلك الحين، لا تنسَ أن تتجاهل كل خبر عن ترامب.. وإن كنت قادرًا، حاول ألا تستفرغ من كثرة التكرار!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *