أمد/ في كل مجتمعٍ يُعاد تشكيل وعيه وتُصادَر ذاكرته، لا تُفقد الأحداث فحسب، بل يُمحى معها فهم الإنسان لنفسه ولحاضره. الشعوب لا تُخضع بالقوة العسكرية وحدها، بل عبر إعادة صياغة وعيها الجماعي والسيطرة على ما يُسمح بتذكره ونسيانه. هنا، يصبح السؤال عن الماضي ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة أخلاقية للبقاء والتغيير.
السلطة التي تُعيد كتابة التاريخ تتحكم بما يُسمح بتذكره وما يُفرض نسيانه، بينما المثقّف يُقدَّر له أن يكون حارس الذاكرة، أو يتحوّل إلى شاهد زور في محكمة التاريخ. في هذا الصراع، لا حياد: إما مواجهة الحقيقة، أو الاستسلام للواقع المفروض.
لا تُمحى ذاكرة الشعوب دفعةً واحدة، كما لا يُعاد تشكيل وعيها بقرارٍ فجّ. ما يحدث هو عملية بطيئة وقصديّة، تُدار بعناية، يُعاد فيها تطويع العلاقة بين الإنسان وماضيه، وبين إدراكه لواقعه وقدرته على تخيّل أيّ مستقبل مختلف. فالوعي لا يتشكّل في الفراغ، بل يُصاغ داخل علاقات القوة، ويتغذّى من الذاكرة، كما أنّ الذاكرة لا تبقى حيّة من دون وعيٍ نقدي يعيد قراءتها ويفضح محاولات تدجينها.
حين تسعى السلطة إلى السيطرة، لا تكتفي بإدارة الحاضر، بل تتوغّل في العقول، وتعمل على إعادة تشكيل الوعي عبر تفكيك المعايير، وتطبيع الاستثناء، وتحويل القمع والخوف إلى حالة يومية مألوفة. في هذا السياق، لا يُمنع التفكير بل يُعاد توجيهه، ولا يُقمع السؤال بل يُفرَّغ من معناه. يصبح الفرد واعيًا ظاهريًا، لكنه محكوم بسقفٍ غير مرئي لما يجوز التفكير فيه، ولِما ينبغي اعتباره «طبيعيًا» أو «حتميًا»، حتى يفقد القدرة على الاعتراض.
غير أنّ إعادة تشكيل الوعي لا تكتمل من دون السيطرة على الذاكرة. فالذاكرة ليست أرشيفًا بريئًا، بل ساحة اشتباك سياسي. ما يُراد للشعوب أن تتذكّره لا يقلّ خطورة عمّا يُراد لها أن تنساه. هنا لا يجري المحو عبر النسيان المطلق، بل عبر الانتقاء المتعمّد، وإعادة الترتيب، وقطع الأحداث عن سياقاتها. تتحوّل الجرائم إلى وقائع عابرة، والثورات إلى «فوضى»، والهزائم إلى أقدار، ويُعاد تقديم الماضي في صيغة تبرّئ السلطة وتُدين الضحية، وتُفرغ الألم من دلالته.
في لبنان، لم تُطوَ صفحة الحرب الأهلية، بل جرى تعليبها طائفيًا وحمايتها بالقانون والصمت. ذاكرة بلا عدالة، وماضٍ بلا محاسبة، وحاضر يُعاد إنتاجه بالأدوات نفسها التي فجّرت الحرب. لم يُرَد للناس أن ينسوا، بل أن يتذكّروا على نحوٍ معطوب: أن يتذكّروا كطوائف لا كمواطنين، وأن يروا الانهيار بوصفه سوء حظّ أو قضاءً وقدرًا، لا نتيجة نظامٍ طائفي محصَّن ضد المساءلة. هكذا تشكّل وعيٌ مأزوم يتكيّف مع الخراب بدل أن يواجه جذوره.
في سوريا، لم يكن القتل غايةً في ذاته، بل أداة مركزية لإعادة هندسة الإنسان. تدمير المدن ترافق مع محاولة سحق الذاكرة التي وُلدت في الشوارع والساحات، ذاكرة الاحتجاج والكرامة وإمكانية التغيير. أُريد للتاريخ أن يبدأ من السلطة وينتهي عندها، وللوطن أن يُختزل في النظام، وللنجاة أن تمرّ عبر الصمت أو المنفى. الخوف هنا ليس حالةً عابرة، بل بنية وعي كاملة تُنتج إنسانًا منزوع الزمن، محاصرًا بحاضرٍ مفروض لا يُناقَش ولا يُقاوَم.
أمّا في فلسطين، فالمعركة على الوعي والذاكرة هي معركة وجود لا تحتمل الالتباس. الاحتلال لا يكتفي بمصادرة الأرض، بل يسعى إلى مصادرة الرواية، إلى تشويه النكبة، وتحويل الحقّ إلى «وجهة نظر»، والضحية إلى متّهم. لذلك يصبح التمسّك بالذاكرة فعل مقاومة يومي، وتغدو الحكاية والاسم والمكان أسلحةً في مواجهة محوٍ منظّم لا يتوقّف، لأنه شرط استمرار الاحتلال نفسه.
في هذا السياق، لا يكون المثقّف شاهدًا محايدًا ولا مراقبًا من خارج الصراع، لأن الحياد هنا شكلٌ من أشكال التواطؤ. دوره أن يقف في وجه إعادة تشكيل الوعي، وأن يعرقل مصادرة الذاكرة أو تشويهها أو تحويلها إلى روايات مُدجّنة صالحة للاستهلاك. فوظيفته ليست تلطيف اللغة، بل كسرها حين تُستخدم لإخفاء العنف، وربط ما يُراد فصله: الماضي بالحاضر، والجريمة ببنيتها، والانهيار بأسبابه السياسية.
المثقّف الذي يساوم على الذاكرة يساوم على الحقيقة. والذي يختبئ خلف «الواقعية» حين تتحوّل إلى اسم آخر للاستسلام، يتحوّل إلى جزءٍ من آليات التزييف نفسها التي يدّعي نقدها. في معركة الوعي والذاكرة، لا حياد ولا منطقة رمادية: إمّا أن تكون شاهدًا على الحقيقة، أو شاهد زور في محكمة التاريخ.
إن استعادة الذاكرة ليست عودةً إلى الماضي، بل استردادٌ للقدرة على الفعل. ومن دون وعيٍ نقدي يحرسها، يبقى الحاضر سجنًا، ويغدو المستقبل تكرارًا للهزيمة، مهما تغيّرت الوجوه وتبدّلت الشعارات.
