حكي القرايا غير حكي السرايا
أمد/ على هامش معرض عمان الدولي للكتاب التقيت بالصديق رمضان الرواشدة وأهداني نسخة من روايته “حكي القرايا”؛ يحلو للكاتب وصفها نوفيلا قصيرة، 88 صفحة، تصميم الغلاف: يوسف الصرايرة/ الأردن، لوحة الغلاف: الفنان أحمد شاويش/ الأردن، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، وقرأت له رواياته “أغنية الرعاة”، و”النهر لن يفصلني عنك”، و”جنوبي”، و”الحمراوي”، و”المهطوان”.
شدّني الإهداء إلى والدته سكينة بنت الشيخ طالب الشخيبي (رحمها الله) وكانت أول من استمع إلى قصصها الغرائبية والعجيبة التي كانت تسردها على شكل حكايات والتي علّمته السرد المبهر المغلّف بالتشويق فكانت خير معلّمة وملهمة.
يمزج رمضان بين التاريخ الشفوي والخيال الأدبي بلغة سلسة وانسيابية وأسلوب مشوّق، بسيط وعميق.
اتخذ التاريخ ووقائعه ركيزة لبناء سرديّته المتخيّلة لتصوّر حقبة زمنيّة تبدأ عام 1834 إلى ثورة الشوبك الاحتجاجيّة ضد الدولة العثمانيّة، ساعدته لإيصال رسالته بنصّ أدبيّ بعيد عن التكلّس في سرد الوقائع التاريخيّة التي تأتي جافة، تحمل تصوُّره عن المرحلة التاريخيّة وتوظيفه لهذا التصوّر في حديثه عن تلك الحقبة، فاتخّذ من التاريخ مرجعًا وركيزة لحبكته الروائية، ممزوجة بالخيال والإثارة ووفّق في ذلك.
تناول محاولات الجيش المصري إخضاع عشائر قلعة الشوبك بأي ثمن طمعاً بجباية الضرائب من أهلها وتجنيد شبابها في جيش محمد علي باشا للمحاربة مع جنده في حروبه ضدّ العثمانيين، وصراع أهلها عبرَ أربعة أجيال ضد المحتل، مهما كانت هويّته، تركية أو مصرية، وأثره على حياتهم اليوميّة بجوانبها المتعدّدة، وتحالفات العشائر ضد المحتلّ الغاشم، وضد الفساد المستشري في أوساط قطّاع الطرق وأعوانهم نتاج ضعف الدولة وسلطتها المركزيّة والجهل المهيمن بسبب إهمال التعليم.
وجدت الرواية عبارة عن همسة ولمسة وفاء لعشيرة الرواشدة والشوبك والكرك، وحين التقيت برمضان دعاني لمشوار في زيارتي القادمة للأردن، وحين قرأت الرواية وجدتها دورة تحضيرية للمشوار الموعود، حيث رسم خريطة للمكان؛ الكرك، وادي موسى، المنطرة، الفجيج، بير الدبّاغات، الحدادة، عين الرغاية، العنصر، الطريق الملوكي، وهو طريق يربط بين الكرك والطفيلة والقلعة، الجاية، والجفر، و”بير الأبيض”، ووادي الحماط، ومنطقة “عنيزة”، وقلعة “الدوسق”، وجبال الشراة، وانسيل الحسينية، وقرية “كثربا”، ومنطقة “الراشديّة”، ومعان، وتلال السمنات، وبدو التوايهة، وجماعة الدعجان.
جاءت لغته شعبيّة سلسة، متبّلة بالأهازيج الريفيّة مما يزيدها حيويّة بنيويّة وتجعل القارئ يعيش أجواءها دون تكلّف، وعلى سبيل المثال:
“يالله عَ الردي واللي تحزّم فيه…
وإن مات الردي يا عين لا تبكيه”
وكذلك الأمر:
“ومعان يا بنت الطموح
عيّو عليها رجالها
وإللي تمنى حربنا
من حربنا وش تستفيد
ما عندنا غير الرصاص
وسيوف ورقاب حديد”
سلّط الرواشدة الضوء بمجهريّته المعهودة على العادات والتقاليد المتوارثة؛ صوّر موسم الحصيدة، التكاتف الاجتماعي، وأغانيه الخاصّة
“تلولح بالمنجل ودوّر…
وارمي للزينات غمور”
“لاحصد في ايديّ الثنتين…
من خوف الغلا والدّين
لاحصد في ايديّ العشرة…
من خوف أبيع البقرة”.
وصوّر أعراس أيام زمان، أيام الزمن الجميل، وما يرافقها من أفراح وغناء؛ السامر والدحية والدبكة وحماس، ومراسم الزفّة التي كانت تطوف القرية، بمشاركة النساء والرجال، ودخول العريس بزوجته.
وصوّر المأكولات الشعبيّة؛ مناسف الجريشة، صباحية العريس؛ معلاق الخاروف المطهو بالسمن البلدي، خبز الشراك، لبن “الشنينة”. والقهوة السادة، سجائر “الهيشي”، البندورة المطبوخة مع بيض الدجاج البلدي “المذبّلة”، الجريشة المطبوخة بلبن الجميد.
اصطحبنا الكاتب إلى الخلافات العشائريّة، مصطلحاتها وطقوسها وتوابعها ودلالاتها؛ إشعال النار في أعلى القلعة يدل على الاستغاثة وطلب النجدة، والفزعة، وأهميّة الأخذ بالثأر، “من يوخذ إلنا الثّار يا خيّالة
ويقطع ظهور الزِّلم في القيّالة
من يوخذ إلنا الثّار يا صبيان
يستاهل زغرودة الضّحى من لساني”.
وطلب الحماية (دخيل يطلب الحماية ورفض تسليمه مهما كلّف الثمن “المنية ولا الدنسة…كيف بدك نسلم الدخيل؟! وِش رَح يقولوا الناس عنّا، ورح نصير مضحكة للبنت وأمها”) (ص. 28)،
وظاهرة قطّاع الطرق؛ غنائم قمح وشعير وعدس وأغنام… وسبايا، سرقة الجمال والذهب من الحجّاج، وكيفيّة التغلّب عليها،
ودور القاضي العشائريّ “مَنقَع دم” كمصلح بين القبائل، وفكّاك نشب.
راق لي استعماله للهجة المحكيّة المحليّة والموروث الشعبي، وكأنّي به يقول، تعرّفوا علينا وعلى عاداتنا وموروثنا كيف إحنا، وعلى سبيل المثال، “صابحونا مصابحة”، و”هذي عزومة ذبحة”، وكذلك الأمر “الكواير”، “الشوالات”، و”الخُم”.
رمضان الرواشدة نصير المرأة، فعلاً لا قولاً، فأنصف بطلاته فاطمة السالم، وعلياء الضمور، ومريم بنت سلامة، وشيحة بنت محمد بن راشد، تماماً كما أنصف أمّه سكينة في الإهداء، وأشاد بدور المرأة؛ مشاركتها في المعارك عبر تزويد الرجال بالعصيّ والسكاكين وبعض الذخيرة، وإسداء النصيحة، وولّادة، والعمل في الزراعة وسدّ احتياجات البيت حيال غياب الزوج في ساحة المعركة.
وجدت الكاتب يرمي بسهامه إلى المحارب المحتلّ حين يشاهد عبر الشاشات قتل آلاف الأطفال والنساء والشيوخ في غزة والتنكيل بجثثهم وتدمير البشر والحجر والشجر متسائلاً عن أخلاقياته وكأني به يقول: سقى الله أيام زمان “إياكم أن تقتلوا شيخاً كبيراً، أو امرأة، أو طفلاً، ولا تذبحوا شاةً أو بعيراً، أو تقطعوا شجرة، ولا تمثّلوا بجثّة أحد من عيال الدعجان”!
وكذلك الأمر مع قتل رموز المقاومة، تماماً مثل مقتل منصور الأعمى؛ يشكّل علامة فارقة يؤرخ قبله وبعده، “مكان قتله مَعلَم معمول به في دائرة الأراضي والمساحة الأردنيّة”، وينبّه أنّ مقتله يولّد منصورين كثراً.
كأنّي بالكاتب ينادي بولادة مدينة فاضلة بعد أن يتولّد “حلف قرايا” جديد يلمّ شمل الدول العربيّة لمناصرة بعضها البعض “…لم تعد ثمّة ثارات وغزوات وحروب بين الناس، ولم يعد الأهالي يعانون من هجمات الجماعات المسلّحة وقطّاع الطرق وشذّاذ الآفاق، ممن كانوا يعيشون على السلب والنهب، إذ تمكّنت الدولة بعد أن شكّلت جيشها وقوّات أمنيّة من الفرسان والمشاة، من إرساء الأمن والأمان، وعملت على إنفاذ القانون”.
استند الكاتب إلى المروي الشفوي وابتعد عن الرواية الرسمية لكي لا يُحاسب كمؤرّخ وليبتعد عن السرديّة التقريرية، فينهي الرواية “ولكن حكي القرايا…المبثوث إلى يومنا هذا في المرويّات الشفويّة في الجنوب الأردني، سيبقى مختلفاً عن كلّ ما يروى من حكي السرايا”، حقاً، حكي القرايا غير حكي السرايا.
سقى الله أيام زمان.