أمد/ يقولون في لبنان عن الحرب الأهلية التي استمرت عامين 19731975 “تنذكر وما تنعاد”، بينما يقولون في غزّة عن حرب العامين 2023 2025، التي تحولت إلى نكبة موصوفة “لا تنذكر ولا تنعاد”، علمًا أنّ خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنهت حرب السنتين الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة وتركته منكوبًا بالمعنى الكامل للمصطلح، مع ربع مليون شهيد ومصاب على الأقلّ، ومليوني نازح، وتدمير 90% من القطاع، وإعادته سنوات بل عقود إلى الوراء، وفق معايير التنمية البشرية.

حازت الخطة الأميركية؛ على علاتها، تأييدًا واسعًا فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا ودوليًا، كونها أوقفت المقتلة والإبادة والمجاعة، لكنها في المقابل وضعت قطاع غزّة تحت ما يشبه الوصاية المباشرة الأجنبية، والأميركية تحديدًا، ورسمت مرحلة انتقالية فضفاضة للتعافي من ثلاث سنوات على الأقلّ، وخمس سنوات؛ وربّما أكثر، لعملية إعادة الإعمار الضخمة والمكلفة، مع أفق أو مسار سياسي ما، قد يقود نحو تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية، لكنه مشروط بتنفيذ الخطة بنجاح في غزّة إلى جانب تجاوز الاختبار المتعلق بإصلاح السلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية.

رغم العزيمة والإرادة والتخطيط السليم في عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، خصوصًا في مهاجمة المعسكرات والمواقع العسكرية المحيطة بالقطاع، باعتبارها أهدافًا مشروعةً للمقاومة، بما في ذلك مقر القيادة الجنوبية لجيش الاحتلال، حيث حققت العملية انتصارًا مبهرًا ليوم واحد فقط، وأثبت بالتأكيد قابلية هزيمة إسرائيل، لكن مع قراءة غير دقيقة للواقع الإسرائيلي والعربي والإسلامي والدولي، وافتقادها تصورًا شاملًا واستراتيجيًا ليس لليوم التالي للحرب فقط، إنّما لليوم التالي للسابع من أكتوبر بالمعنى المباشر.

في ما يخص اليوم التالي، فإسرائيل لم تعد ذاتها، وباتت خاضعة لوصاية حليفها الأميركي الموثوق، ومن جهة أخرى لم يعد بإمكانها فعل ما يحلو لها، وتجاوز المواثيق الدولية من دون محاسبة

أظهرت العملية قراءةً خاطئةً للواقع الإسرائيلي، والاستقطاب السياسي والحزبي حول خطة الانقلاب القضائي، وبالجوهر حول هوية الدولة العبرية ومستقبلها، معتقدين بعدم قدرة تل أبيب أو إرادتها في ظلّ هذا الاستقطاب على الذهاب إلى حرب موسعة وطويلة، وتنفيذ اجتياح بري واسع للقطاع، إذ كان التفكير كله منصبًا؛ تكتيكيًا منذ اللحظة الأولى رغم أن العملية استراتيجية، في تأكيد العودة إلى واقع تهدئة ما قبل الحرب، بعد جولة تصعيد وقتال لأيام أو أسابيع قليلة، كما جرى في جولات القتال السابقة، في تبسيط لا يمكن تخيله في التعاطي مع قضية مصيرية إلى هذا الحد.

استغلت الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل الحرب، ليس لكسر سياساتها حول إدارة الصراع فقط، وفق سياسة الواقع الراهن، وتكريس بل تأبيد الانقسام الفلسطيني، وإزاحة القضية الفلسطينية عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي، ضمن وتيرة منخفضة للصراع، كي لا يفيض على المنطقة والعالم، إنّما لشن حرب مدمرة لإيقاع نكبة موصوفة بغزّة وأهلها، مع التذكير الضروري هنا بما قاله وزير الزراعة، مسؤول جهاز الشاباك السابق، الجنرال آفى ديختر بداية الحرب، عن ايقاع نكبة 2023 بالشعب الفلسطيني، باعتبار ذلك أحد الأهداف غير المعلنة للحرب، وتلقي توبيخًا علنيًا على هذا البوح من رئيسه بنيامين نتنياهو، تمامًا كزميله وزير الشتات عميحاي إلياهو، الذي طالب بضرب غزّة بقنبلة نووية، وتم إسكاته مع فعل ذلك تراكميًا بعشرات القنابل النووية، لا واحدة فقط.

ليس ذلك فحسب؛ بل حصلت الدولة العبرية على نافذة ومساحة زمنية واسعة، ودعم عسكري واقتصادي وإعلامي من المجتمع الدولي، خصوصًا الدول الغربية الغنية والمتنفذة استمر سنة تقريبًا، وتآكل مع الوقت، وانتهى تمامًا مع تحول الحرب إلى نكبة موصوفة لغزّة، ومقتلة وإبادة جماعية، ثمّ مجاعة، إذ لم يعد بالإمكان دعمها، أو الدفاع عنها أمام الصور الصادمة، والرأي العام الشعبي الغاضب في الدول الغربية الديموقراطية، التي وفرت تاريخيًا مظلة الحماية الراسخة لإسرائيل.

لم يكن الموقف العربي الإسلامي مرضيًا، لكنه لم يكن مفاجئًا أمام واقع الحال، والتبعية والحاجة إلى الحماية الغربية، وبالتأكيد رغم العاطفة الشعبية الجياشة لم يكن المشهد العربي الإسلامي مهيًأ لمعركة استراتيجية وحاسمة مع إسرائيل المدعومة من الغرب المتفوق على المستويات كلّها، خصوصًا العسكرية والتكنولوجية، وترسانته الحربية الهائلة، التقليدية وغير التقليدية، وهو ما عبر عنه ببلاغة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، أحد الأصوات الشجاعة الناقدة لإسرائيل بقوله “لا نملك قنابل نووية وحاملات طائرات لإيقاف الإبادة والمقتلة في غزّة، لكننا سنفعل ما بوسعنا لتحقيق ذلك”.

في ما يخص العجز الدولي عن وقف الحرب، وتحديدًا الأمم المتّحدة ومؤسساتها، فهذا غير مفاجئ كذلك، قياسًا للمشاكلات والأزمات البنيوية التي تعانيها المنظّمة الأممية، وعجزها أصلًا، رغم عشرات، بل مئات القرارات خلال ثمانية عقود تقريبًا، عن حلّ القضية الفلسطينية العادلة، وتمكين شعبها من حقّ تقرير المصير غير القابل للتصرف، كما تقول الأمم المتّحدة في أدبياتها وخطاباتها.

كان يجب وقف الحرب فلسطينيًا بعد فشل المراهنات على جر جيش الاحتلال إلى حرب استنزاف، قتل 1000 جندي خلال عامين، هو رقم محتمل، وأقلّ مما فقدته إسرائيل في حرب لبنان 1982، 1200 جندي، خلال ثلاثة شهور فقط، وجبن محور إيران وحلفائها عن الانخراط الفعلي في المعركة، وتنفيذ ما روّجوه لسنوات عن وحدة الساحات لهزيمة إسرائيل الضعيفة والمفككة، وطول مدّة نظر قضية الإبادة المضمونة أمام محكمة العدل الدولية، التي ستستغرق سنوات، ثمّ مرور شهر رمضان الموافق في مارس/آذار 2024 بهدوء في القدس والجوار العربي، والمراهنة الخاطئة على الضغوط الغربية والأميركية لمنع إسرائيل من اجتياح رفح، الذي مثل نقطةً مفصليةً في تاريخ الحرب، وأطالها أكثر مما ينبغي. كان المشهد في المدينة لافتًا حتّى مايو/أيّار 2024، فالمعبر مفتوح لدخول المساعدات، مع مليون ونصف من النازحين، وربع مليون من سكانها بظروف إنسانية معقولة، أو محتملة بالحدّ الأدنى.

حازت الخطة الأميركية؛ على علاتها، تأييدًا واسعًا فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا ودوليًا، كونها أوقفت المقتلة والإبادة والمجاعة، لكنها في المقابل وضعت قطاع غزّة تحت ما يشبه الوصاية المباشرة الأجنبية

أما من الناحية الإسرائيلية؛ ومع رفض الأجندة الدموية والعنصرية لأهداف الحرب المستحيلة، تدمير قطاع غزّة، والقضاء على حماس، واستعادة الأسرى من دون دفع مقابل سياسي يتعاطى مع جذر القضية الفلسطينية، وكما يقال في الإعلام العبري عن حقّ، كان يجب إيقافها في أغسطس/آب 2024، بعد احتلال رفح ومحورها، وتدمير معبرها، وعزل القطاع عن محيطه العربي والعالمي، وبعدما استنفذ الخيار العسكري وأدى أغراضه، وبات المجال مفتوحًا للسياسة، وهو ما قاله ترامب حرفيًا ومرارًا لحظة إعلانه عن الخطة، ثمّ في خطاباته بالكنيست وقمّة شرم الشيخ.

إذن أطال نتنياهو الحرب لسنة على الاقلّ لأسباب داخلية، الحفاظ على ائتلافه المتطرف، والتهرب من لجنة التحقيق الرسمية في فشل السابع من أكتوبر، والانتخابات المبكرة، التي باتت مسألة وقت فقط، لكن حصل هذا للأسف على حساب دماء ومقدرات وثروات غزّة وأهلها، إذ اضطر أخيرًا إلى وقفها تحت ضغط ترامب، بعد تدمير 90% من القطاع، وتحويل أهله إلى نازحين في وطنهم.

تمثّلت فلسفة خطة ترامب في الدمج بين عزلة إسرائيل الدولية، وتراجعها السياسي والدبلوماسي رغم تفوقها العسكري، والحاجة إلى تدخل الدول العربية والإسلامية ودعمها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، من هنا جاء رفض التهجير والاستيطان في غزّة، والضمّ في الضفّة، ولكن مع خريطة طريق عامة وضبابية، من دون جدول زمني ملزم، كما تضع الفلسطينيين تحت الاختبار لفتح المسار والأفق السياسي أمامهم في ما بعد.

قال مستشار رئيس الوزراء الأسبق أرئيل شارون، دوف فاسغلاس، ذات مرة أن لا دولةً فلسطينيةً قبل أن يتحول الفلسطينيون إلى فنلنديين، وفق خريطة طريق الرئيس جورج بوش الابن، التّي تخلى عنها شارون نفسه، وهرب نحو الأحادية، حتّى مع قبول الرئيس الشهيد ياسر عرفات بها. في حين تبدو خريطة طريق ترامب، من دون جوهر سياسي جدي وموثوق، مع شروط عنصرية مماثلة أمام الفلسطينيين، ووصاية مباشرة من توني بلير، وهيئة جيتا خاصته، التّي ستتحكم في مقاليد الأمور في غزّة جملةً وتفصيلًا.

في الأخير، وفي ما يخص اليوم التالي، فإسرائيل لم تعد ذاتها، وباتت خاضعة لوصاية حليفها الأميركي الموثوق، ومن جهة أخرى لم يعد بإمكانها فعل ما يحلو لها، وتجاوز المواثيق الدولية من دون محاسبة شعبيةٍ ورسميةٍ، حتّى في بيئتها الحاضنة في الغرب، والأهم؛ لم يعد بإمكانها مواصلة انفصامها العنصري، وتجاهل الشعب الفلسطيني وحقوقه وقضيته العادلة، والمضي قدمًا في شؤونها الداخلية وعلاقاتها الخارجية وكأن شيئًا لم يكن.

هذا ينقلنا مباشرةً إلى اليوم التالي فلسطينيًا، كما كان الحال بعد نكبتي 1948 و1967، فقد انتهت الطبقة السياسية برمتها، التي فشلت في منع حدوث النكبة وإيقافها، فبينما احتجنا 16 عامًا بعد النكبة الأولى للنهوض والانبعاث وتأسيس منظّمة التحرير الأولى، وإلى زمن أقلّ بعد النكبة الثانية 1967، سنتين تقريبًا لانطلاق حقبة الفصائل ومنظّمة التحرير الثانية، باتت الظروف مهيأةً أمام النسخة الثالثة، التّي يجب أن تأتي سريعًا ومختلفةً شكلًا مضمونًا عن نسختيها السابقتين، مع الاحترام الكامل للتجربة بالطبع. بالسياق ذاته؛ يمكن الاقتباس فلسطينيًا مما قاله الجنرال دانى إيزنغوت الاثنين الماضي في سياق شرحه لليوم التالي المطلوب إسرائيليا” أي أحد كان يتولى منصبًا عسكريًا أو سياسيًا في السابع من أكتوبر لن يتولى منصبًا قياديًا، ويجب تشكيل لجنة تحقيق رسمية، وأن تتقصي حقائق قبل عقدها، بما فيها الفترة التي توليت فيها شخصيًا رئاسة الأركان”.

شاركها.