أمد/ منذ اندلاع حرب الإبادة في قطاع غزة، بدا واضحًا أن مشهد التضامن العالمي لم يعد محصورًا في دوائر النشطاء التقليديين، بل توسّع ليشمل طيفًا واسعًا من التيارات اليسارية في الشرق والغرب. لقد تحوّلت العواصم الكبرى من لندن وباريس وبرلين إلى نيويورك وملبورن وسانتياغو إلى ساحات حشد هائلة، عبّرت فيها القوى اليسارية عن رفضها الأخلاقي والسياسي للحرب الإسرائيلية، وعن قلقها من عودة منطق الإبادة الجماعية كممارسة سياسية في القرن الحادي والعشرين.
لقد أعادت هذه الحرب الاعتبار لدى اليسار العالمي لأسئلة الاستعمار والعنصرية والاستغلال التي تشكّل قلب التحليل اليساري الكلاسيكي. فكما شدد السيناتور الأمريكي والرمز اليساري بيرني ساندرز: «ما يحدث في غزة ليس حربًا دفاعية، بل كارثة إنسانية صنعتها آلة عسكرية لا تعرف الحدود. يجب على الولايات المتحدة أن توقف دعمها غير المشروط لإسرائيل.» جاءت هذه الكلمات لتجسّد موقفًا واضحًا أمام ملايين المتظاهرين الذين رفعوا شعارات تربط بين العدالة الاجتماعية والعدالة لفلسطين، وبين مقاومة العنصرية في الداخل الغربي ومناهضة الاحتلال في الشرق.
وفي السياق ذاته، كتب الباحث المعروف مهدي حسن في مقاله الأخير: «إن ما يجري في غزة كشف المعايير المزدوجة للغرب… فحقوق الإنسان لا يمكن تجزئتها حسب هوية الضحية». هذا الخطاب، وإن لم يكن جديدًا، إلا أنه اكتسب زخمًا غير مسبوق داخل الجامعات الغربية والنقابات العمالية والحركات الشبابية اليسارية التي رأت في الحرب فرصة لفضح البنية الاستعمارية التي ما زالت تتحكم في السياسات الدولية، وخاصة تلك المتعلقة بفلسطين.
أما عمدة نيويورك الجديد زهران منداني، فقد قدّم توصيفًا أكثر عمقًا حين قال: «فلسطين اليوم ليست قضية شعب محتل فحسب، بل اختبارٌ أخلاقي للعالم: هل نقبل أن يُمحى شعب من الخريطة ونحن نشاهد؟». هذا الاقتباس انتشر على نطاق واسع، وصار جزءًا من الخطاب اليساري الذي يربط بين غزة وجميع ضحايا الحروب والعنصرية والاستغلال في العالم.
هل أثّرت هذه المواقف على عزلة إسرائيل دوليًا؟
الإجابة ليست حاسمة بعد، لكنها تميل إلى «نعم» بصورة متصاعدة. فقد دفعت الاحتجاجات الضخمة برلمانات عديدة إلى إعادة مناقشة صفقات السلاح لإسرائيل، وأجبرت وسائل الإعلام الغربية على تعديل خطابها التقليدي. كما ارتفع عدد الدول التي تطالب بوقف الحرب، وباتت إسرائيل أكثر عزلة في المحافل الدولية، بينما تعرّضت بعض حكومات الغرب لضغوط داخلية غير مسبوقة بسبب تورطها السياسي أو العسكري في دعم العدوان.
ويشير كثير من المراقبين إلى أن مواقف اليسار العالمي ساهمت في خلق رأي عام مضاد لسياسات الاحتلال، ما أعطى دفعة قوية للمنظمات الحقوقية التي تعمل على مقاضاة إسرائيل في المحاكم الدولية. وحتى داخل الولايات المتحدة، ظهرت أصوات يسارية قوية في الكونغرس وخارجه، تطالب بوقف الحرب ومراجعة الدعم غير المشروط لإسرائيل، وهو تحول لم يكن ممكنًا قبل عقدٍ أو اثنين.
كيف يمكن لحركة حماس الاستفادة من هذا الزخم في الحراك اليساري، وهذه الطفرة من شعبوية اليسار في الكثير من الدول الغربية؟
من المهم التفريق بين الدعم للقضية الفلسطينية والدعم لحماس كحركة سياسية ذات خصوصيتها الفكرية والتنظيمية. ومع ذلك، يمكن للحركة إذا أحسنت إدارة خطابها السياسي أن تستفيد من المدّ اليساري العالمي عبر ثلاثة مسارات رئيسية:
1. توسيع التحالفات الدولية
يمكن لحماس، ضمن إطار وطني جامع، أن تبني جسورًا مع الأحزاب والنقابات وحركات التضامن التي برزت خلال الحرب، بما يعزز من شرعية الرواية الفلسطينية في المحافل الدولية. اليسار بطبيعته يبحث عن رواية التحرر، وهذه مساحة تستطيع الحركة العمل فيها بحكمة وصياغة جديدة.
2. تطوير خطاب سياسي مدني
إن تزايد الأصوات اليسارية المتضامنة مع غزة يفرض على الحركة مراجعة خطابها ليكون أكثر قدرة على مخاطبة العالم بلغة سياسية وحقوقية تتجاوز الشعارات التقليدية. خطاب يركز على إنهاء الاحتلال، والدفاع عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، والانفتاح على العمل المشترك في ساحات القانون الدولي.
3. الاستفادة من الضغط الشعبي الغربي على حكوماته
يمكن للقوى اليسارية، خصوصًا في أوروبا وأميركا اللاتينية، أن تلعب دورًا مهمًا في محاصرة السياسات الداعمة لإسرائيل. وهذا يتطلب من الحركة والفصائل الفلسطينية تنسيقًا أكبر، وتقديم رؤية سياسية قابلة للتفاعل مع المجتمع الدولي، وخاصة القوى التي تريد إنهاء الاحتلال دون الانحياز لمعادلات الشرق الأوسط القديمة.
هل اليسار رصيد أممي للقضية الفلسطينية؟
الإجابة الأقرب للواقع: نعم، وبشكل تراكمي وليس ظرفيًا. فاليسار العالمي هو التيار الذي حافظ رغم التحولات على موقف مبدئي ضد الاستعمار والعنصرية، وهو التيار الذي أعاد اليوم ربط غزة بنضالات الشعوب من جنوب أفريقيا إلى تشيلي والهند. وما نراه من موجة عالمية ضد الحرب يثبت أن القضية الفلسطينية ما زالت جزءًا من الوجدان الأممي، وأن العدوان الإسرائيلي كشف عن صدوع كبيرة في صورة «الديمقراطية» الإسرائيلية داخل الوعي الغربي.
ختامًا، غزة اليوم ليست فقط جرحًا مفتوحًا، بل مرآة كاشفة للعالم… وامتحانًا لمقدار ما بقي فيه من إنسانية. وما زخم اليسار العالمي، المتمثل في المظاهرات والبيانات السياسية، يشكّل فرصة استراتيجية للفلسطينيين لتعزيز موقع قضيتهم دوليًا، وتحويل التضامن الأخلاقي إلى ضغط سياسي ملموس على الاحتلال.
