أمد/ في تطورٍ قانوني لافت، شھدت بلجیكا خلال الأیام الماضیة حدثًا غیر مسبوق، تمثل في استجواب جنود إسرائیلیین على أراضیھا، بناءً على شكاوى تقدّمت بھا منظمات حقوقیة دولیة تتھمھم بالمشاركة في جرائم حرب ارتُكبت في قطاع غزة.

الحادثة أعادت إلى الواجھة دور بلجیكا التاریخي في تطبیق مبدأ “الاختصاص القضائي العالمي”، وطرحت تساؤلات حول ما إذا كانت بروكسل تستعید إرثھا القانوني السابق، الذي مكنھا من محاكمة مجرمي حرب من أفریقیا وأمریكا اللاتینیة.

 

ما الذي حدث؟

خلال مشاركتھما في مھرجان Tomorrowland الشھیر قرب مدینة أنتویرب، خضع جندیان إسرائیلیان للاستجواب من قبل السلطات البلجیكیة، بعد أن تم التعرف علیھما عبر معلومات مفتوحة المصدر. الشكوى التي قدُمت ضدھما جاءت من منظمتین حقوقیتین ھما “مؤسسة ھند رجب” و “الشبكة العالمیة للإجراءات القانونیة” (GLAN)، وتتضمن اتھامات بارتكاب جرائم ضد المدنیین في غزة خلال العدوان الإسرائیلي الأخیر.

 

رغم الإفراج عن الجندیین لاحقا، جراء ضغوط أمریكیة، فإن الحدث بحد ذاتھ یحمل دلالات ومآلات كبیرة في توقیتھ ومكانھ نستعرضھا لاحقاً.

 

وھذه لیست المرة الأولى التي تتحرك فیھا بلجیكا قانونیًا ضد أشخاص متھمین بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانیة:

في عام 2001 تم محاكمة أربعة رواندیین عن دورھم في الإبادة الجماعیة.

في عام 2003 كانت محاولة مقاضاة رئیس الوزراء الإسرائیلي الأسبق أرییل شارون على خلفیة مجازر صبرا وشاتیلا توقفت بدعوى تمتعھ بالحصانة .

وھناك قضیة حسین حبري، الرئیس التشادي السابق الذي لاحقتھ بلجیكا بمذكرة توقیف دولیة، وسُجن لاحقًا في السنغال.

 

ھذه السوابق  والعدید غیرھا أسست لسمعة بلجیكا كدولة رائدة في العدالة الدولیة العابرة للحدود.

 

وتؤكد حادثة استجواب الجنود الإسرائیلیین على أن القانون البلجیكي الیوم انتقل من التقیید إلى التفعیل.

ففي عام 2003، وعلى خلفیة قضیة شارون  وتحت ضغط أمریكي وإسرائیلي، اضطرت بلجیكا إلى تعدیل قانون الاختصاص القضائي العالمي، بحیث أصبح یُشترط:

وجود المتھم داخل الأراضي البلجیكیة.

أو أن یكون الضحیة أو الجاني بلجیكي الجنسیة أو الإقامة.

لكن ما حدث في الأیام الماضیة یُظھر أن القانون لم یُلغَ بل أعید تفعیلھ عملیًا حین تكون الظروف مناسبة، كوجود الجناة داخل البلاد، وھذا ما حدث مع الجنود الإسرائیلیین.

 

وھذا یؤكد على أن غزة في مرمى العدالة الدولیة، فمنذ بدایة العدوان الإسرائیلي الأخیر، تتوالى التقاریر الحقوقیة الدولیة التي توثق جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانیة، تشمل:

استھداف المدنیین خاصة الأطفال والنساء.

تدمیر الأعیان المدنیة  بما فیھا المنشآت الدولیة والمراكز الصحیة.

استخدام القوة المفرطة والأسلحة المحرمة.

فرض الحصار ومنع وصول الإغاثة الإنسانیة واستخدام سیاسة التجویع بشكل واسع وغیر مسبوق.

 

 

 

وقد طالبت عدة جھات فلسطینیة ودولیة بضرورة محاكمة القادة العسكریین والسیاسیین الإسرائیلیین، سواء عبر المحكمة الجنائیة الدولیة أو من خلال المحاكم الوطنیة التي تطبق مبدأ الولایة القضائیة العالمیة، مثل بلجیكا وإسبانیا.

 

ماذا بعد حادثة استجواب الجنود الإسرائیلیین في بلجیكا؟  

قد تكون مقدّمة لموجة قادمة من المساءلة القانونیة، خصوصًا مع:

وجود ضحایا فلسطینیین یحملون جنسیات أوروبیة.

نشاط واسع للشتات الفلسطیني والمنظمات الحقوقیة.

تنامي الوعي الأوروبي الشعبي بجرائم الاحتلال واتساع قاعدة التضامن.

 

في المقابل، یُتوقع أن تواجھ بلجیكا ضغوطًا ھائلة من إسرائیل وحلفائھا، كما حدث في قضیة شارون، وستسعى تل أبیب لإصدار “تحذیرات سفر” لجنودھا خشیة الاعتقال في دول معینة.

 

والخلاصة أن بلجیكا، التي كانت في طلیعة الدول التي جرّمت الإبادة في رواندا وفتحت أبواب العدالة الدولیة قبل المحكمة الجنائیة نفسھا، تجد نفسھا الیوم أمام اختبار جدید.

ھل تملك بروكسل الجرأة القانونیة والسیاسیة على المضي في محاسبة مجرمي الحرب الإسرائیلیین؟ أم ستطغى الحسابات السیاسیة على مبادئ العدالة كما حدث في تجارب سابقة؟

الأیام القادمة كفیلة بالإجابة، لكن المؤكد أن ذاكرة العدالة لا تموت، و الجرائم لا تسقط بالتقادمز 

تحلیل دلالات ومآلات توقیف جنود إسرائیلیین في بلجیكا في ھذا التوقیت والمكان یتطلب تفكیك الحدث على ثلاث مستویات:

(1) الدلالة الرمزیة والقانونیة، (2) تأثیره على الحراك الحقوقي الدولي، و(3) انعكاسھ على المواقف الأوروبیة عامة. إلیك تفصیلًا لذلك:

 

وكما أسلفنا فإن الحدث بحد ذاتھ یحمل دلالات ومآلات كبیرة زمانیة ومكانیة نستعرضھا في التالي:

 

أولًا: دلالات التوقیت

. الحدث جاء في خضم تصاعد الضغط الدولي على إسرائیل بعد مرور أكثر من  21 شھر على حرب غزة حیث:

توالت تقاریر المنظمات الحقوقیة الدولیة عن جرائم ضد الإنسانیة.

المحكمة الجنائیة الدولیة أصدرت طلبات توقیف بحق قادة إسرائیلیین، وعلى رأسھم نتنیاھو وغالانت.

تنامي التحركات القانونیة في دول أوروبا لملاحقة مجرمي الحرب.

. بروز انقسام داخل الرأي العام الأوروبي:

قوى شبابیة ومدنیة تدعم القضیة الفلسطینیة وتضغط على الحكومات.

في المقابل، ضغوط دبلوماسیة مكثفة من واشنطن وتل أبیب لحمایة الجنود والمسؤولین الإسرائیلیین من الملاحقة.

 

. الحدث وقع بالتزامن مع مھرجان Tomorrowland، أحد أكبر المھرجانات في أوروبا، وھو ما ضاعف رمزیة المشھد الإعلامیة:

جنود إسرائیلیون یتجولون بحریة في أوروبا، فیما یُتھمون بارتكاب مجازر في غزة.

شكل من أشكال “المفارقة الأخلاقیة”، جعل استجوابھم فعلًا رمزیًا في أعین الرأي العام الأوروبي والعالمي والفلسطیني. 

 

 ثانیاً: دلالات المكان (بلجیكا)

1 . بلجیكا لھا تاریخ قانوني خاص مع جرائم الحرب:

سبّاقة في تطبیق الاختصاص القضائي العالمي.

لھا سابقة في محاولة محاكمة شارون، ومحاكمة رواندیین وأفارقة.

2 . بروكسل مركز مؤسسات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو:

ما یحدث على أراضیھا یكتسب وزنًا سیاسیًا أكبر.

الاستجواب رسالة ضمنیة بأن أوروبا لیست كلھا في صف إسرائیل وأن ھناك مواقف رسمیة أخلاقیة إنسانیة.

3 . المجتمع البلجیكي نشِط في القضایا الحقوقیة:

عشرات منظمات المجتمع المدني البلجیكیة كانت بین الموقعین على مذكرات تدین الحرب على غزة.

 

ثالثًا: مآلات الحدث على المستوى الأوروبي والدولي

1 . على المدى القریب:

تزاید الحذر الإسرائیلي في السفر إلى أوروبا:

تصدر إسرائیل تحذیرات رسمیة للجنود والضباط والقادة من زیارة دول مثل بلجیكا، إسبانیا، ألمانیا، أو النرویج.

ارتفاع عدد الشكاوى القانونیة في أوروبا حیث نشھد تصعیدًا في تقدیم الشكاوى ضد مسؤولین إسرائیلیین إلى محاكم أوروبیة، خاصة مع وجود ضحایا یحملون جنسیات مزدوجة.

 

2 . على المدى المتوسط:

نقل المعركة القانونیة من المحكمة الجنائیة الدولیة إلى ساحات وطنیة: بعد تسییس عمل المحكمة الجنائیة، یلجأ النشطاء الحقوقیون أكثر إلى المحاكم المحلیة الأوروبیة.

ضغط متزاید على حكومات أوروبا لاتخاذ مواقف قانونیة: الحدث یعزز حجج القوى السیاسیة والحقوقیة التي تطالب بفرض قیود على التعاون العسكري مع إسرائیل أو تجمید اتفاقیات الشراكة.

 

3 . على المدى البعید:

ترسیخ سابقة قانونیة یمكن البناء علیھا لاحقًا: 

مجرد استجواب جنود إسرائیلیین في بلد أوروبي یشكل كسرًا “للحصانة الرمزیة” التي كانت ترافق الجیش الإسرائیلي في أوروبا.

قد یدفع ذلك دولًا أخرى إلى تعدیل قوانینھا لتوسیع نطاق اختصاصھا القضائي.

 

الإستنتاج الختامي من ھذا الحدث أنھ لیس مجرد إجراء أمني أو استجواب روتیني، بل ھو رسالة قانونیة وسیاسیة ذات أبعاد متعددة:

للقادة الإسرائیلیین: أوروبا لم تعد ملاذًا آمنًا.

للضحایا الفلسطینیین: المحاسبة ممكنة ولو بعد حین.

وللمجتمع الدولي: لا یمكن تجاھل الجرائم إلى الأبد تحت غطاء الحصانة أو التحالفات السیاسیة.

 

إنھ تحول بطيء لكنھ عمیق، فمن التعاطف إلى التوثیق، ومن التوثیق إلى المحاسبة.

 

شاركها.