أمد/ غزة شيماء أبو سعدة: يترقب النازحون في قطاع غزة منخفضًا جويًا ثالثًا هذا الشتاء، بعدما ضربت منخفضات سابقة مخيمات النزوح وتسببت في غرق مئات الخيام التي تؤوي آلاف العائلات المشردة جراء حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من عامين.
فمع أولى قطرات المطر التي هطلت مع بداية المنخفض الأول والثاني، تحولت الخيام المهترئة إلى برك من الطين، وباتت حياة النازحين معلّقة بين الرياح العاتية والمياه التي تجرف ما تبقى من متاعهم البسيط.
وخلال ساعات قليلة فقط، انهارت عشرات الخيام التي بالكاد تصمد أمام الهواء، لتكشف واقعًا إنسانيًا كارثيًا، وسط تحذيرات من أن المنخفض القادم قد يفاقم المأساة، في ظل غياب أي مقومات للبقاء أو استجابة طارئة كافية.
معاناة تتجاوز حدود الاحتمال
في إحدى المخيمات قرب ميناء غزة البري، يقول أحمد وهو نازح من شمال القطاع بعد تدمير منزله كاملًا:
“المياه أخذت الخيمة بما فيها… أولادي تجمّدوا من البرد. لا مكان آمن، لا من القصف ولا من المطر ولا من أي شيء.”
ويصف لحظات هطول المطر بأنها أشبه بجرس إنذار مرعب، فالمطر لا يسقط على أسطح تحميهم، بل يضرب أجسادهم وأغطيتهم مباشرة، بينما تتشقق الأرض تحتهم وتختلط بالبرد والجوع والدموع.
أما محمد، نازح آخر في جنوب القطاع، فيقول:
“يهطل المطر فنشعر بالرعب. نركض لإنقاذ ما يمكن إنقاذه… البلل أهون من الضيق، والغرق أهون من الموت تحت الخيمة.”
ويؤكد أن المسألة لم تعد مجرد غرق خيام، بل انهيار كامل لأدوات الحياة الأساسية، وواقع يلخص حجم الألم الذي يعيشه سكان غزة كل دقيقة.
وسط هذا المشهد القاتم، لا يتوقف الألم عند غرق الأرض تحت أقدامهم، بل يمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية التي تحولت إلى صراع مستمر من أجل البقاء. فليلة واحدة من المطر تعني ساعات طويلة من السهر، وحراسة الخيمة لئلا تسقط فوق رؤوسهم، وتجفيف الأغطية المبتلة التي أصبحت أثقل من أن تُحمل، وتغيير ملابس الأطفال إن وُجدت لمنع نزلات البرد القاتلة.
الأمهات اللواتي فقدن بيوتهن يحاولن حماية أطفالهن من البرد والمرض بقطع نايلون ممزقة وأغطية لا تصلح إلا للذكرى، والآباء الذين كانوا يسعون لتحسين مستقبل أسرهم، باتوا اليوم يقاتلون فقط ليبقوا على قيد الحياة يوماً آخر.
يقول محمود، نازح من مدينة غزة يسكن في خيمة قرب المنطقة الوسطى:
“هذا الشتاء ليس مجرد موسم عابر… إنه معركة كل دقيقة، عندما تغرق الخيمة، أغرق أنا أيضاً في شعور بالعجز، أرى أطفالي يرتجفون ولا أملك شيئاً لهم.”
أما كبار السن، والمرضى، وذوو الاحتياجات الخاصة، فتبدو معاناتهم أعمق، إذ تزداد آلامهم مع البرد والرطوبة، دون أدوية كافية أو رعاية طبية أو حتى وسيلة للتدفئة. كثيرون يمرّ عليهم الليل وهم يستندون إلى جدران من قماش لا تمنع الرياح ولا الخوف.
في هذا الشتاء القاسي، تحوّل كل شيء إلى تحدٍّ قاسٍ: الدفء… الطعام… النوم… وحتى الحلم بحياة طبيعية… كلّه أصبح رفاهية لا يملكها النازحون.
حصار مقصود يفاقم الكارثة
ما يجري ليس نتيجة أحوال جوية قاسية فحسب، بل استمرار لإبادة جماعية وحصار خانق يمنع دخول مواد البناء والمساعدات الإنسانية والاحتياجات الأساسية، ويجبر الناس على مواجهة شتاء بلا سقف ولا حماية.
فإسرائيل، إلى جانب تدميرها الشامل للمنازل والبنى التحتية، تمنع إدخال الوقود، والمواد العازلة، والأغطية، والمساعدات الكافية، ما يجعل أبسط متطلبات النجاة شبه مستحيلة.
الأونروا: جهود مرهقة في مواجهة منخفضات متكررة
قالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” إن الجهود الجماعية للتحضير لموسم الشتاء تتعرض لضغوط كبيرة بسبب العواصف الجديدة وما تخلّفه من احتياجات طارئة متجددة.
وأشارت إلى أن معظم سكان غزة يقيمون في مساكن غير ملائمة لا تفي بالمعايير الطارئة، مثل الخيام والملاجئ المؤقتة والمباني المتضررة بشدة.
وتواصل الأونروا جهودها في 32 مدرسة تم تحويلها إلى ملاجئ، معظمها في المنطقة الوسطى وخان يونس، وتشمل إزالة المياه وتنظيف المصارف المسدودة وتوزيع الأقمشة المشمعة وإصلاح الخيام المتضررة، لضمان توفير ظروف أكثر أمانًا.
كما ذكرت الوكالة أن أكثر من 79 ألف نازح يعيشون في 85 مركز إيواء، وسط تدهور إنساني متسارع مع اقتراب فصل الشتاء.
كارثة تتسع… وعالم يتأخر
بحسب تقديرات أممية، يحتاج قطاع غزة إلى 300 ألف خيمة ووحدة سكنية مسبقة الصنع على الأقل لتأمين الحد الأدنى من المأوى للنازحين بعد تدمير البنية التحتية.
وتُقدر تكلفة إعادة إعمار غزة بنحو 70 مليار دولار، جراء حرب الإبادة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً، والتي أدت إلى استشهاد أكثر من 69 ألف فلسطيني وإصابة نحو 171 ألفًا خلال عامين.
بينما ينتظر النازحون المنخفض الجوي الثالث بلا جدران تحميهم ولا إمدادات تقيهم البرد والجوع، تبدو كارثة الشتاء في غزة أكبر من أي قدرة على الاحتمال وأعمق من مجرد أزمة طارئة.
وسط هذا الواقع الصعب، تتجسد معاناة النازحين كجرح مفتوح يروي فصول مأساة مستمرة؛ مأساة لم تكن يومًا حدثًا طبيعيًا، بل نتيجة حرب دمّرت البيوت ، وأبقت أكثر من مليوني إنسان تحت السماء بلا سقف آمن، يقفون في مواجهة البرد والمطر بوسائل بدائية وأجساد مرهقة، فيما تتسلل الرطوبة والمرض والخوف إلى تفاصيل يومهم، ورغم قسوة الظروف، يواصل أهالي غزة التشبث بالحياة، في مشهد يلخص قوة إرادة لا تنكسر أمام كل ما يحاصرها.
