تعددية النسق في شعر تانيا هابرلاند الجسد، المكان، المقدّس، والهوية خرائط تتوزع عبر قماشة اسْمُها الجلد

أمد/ هذه كتابة لا تأتي من مسافة، بل من الجسد، من الندبة، من التيه. شِعرها يشبه اللمس: حقيقي، مضطرب، حارٌ، وبارد في آن. وفي هذه العوالم التي تنسجها، تتقاطع الثقافات، وتتعرى الذات، وتنهض الأسطورة لا كخرافة، بل ككثافة شعورية تسكن الواقع. تُصغي تانيا هابرلاند، شاعرة الماء ثلاثية الجنسية (ألمانيةجنوب أفريقية موريشيوسية)، لتناقضات التجربة الإنسانية، لكنها تستخدم اللغة كأداة انكشاف ونجاة معًا. فالشعر عندها هو الجسد حين يتحول إلى هوية، والمقدس حين ينهار، والهوية حين تتفتت. وفي عالمها الذي يرفض الحدود، يظل الشعر في قلب التوتر الذاتي والثقافي والمعرفي والوجودي، ساعيًا لإثارة أسئلة كبرى. يتقاطع صوتها مع أسئلة ما بعد الكولونيالية، والنسوية، والنقد الثقافي المعاصر، لتغدو قصيدتها مختبرًا حيًا لفهم الذات والعالم، حيث يصبح الشعر كما يقول بول فاليري ضرورة لا ترفًا.
يتميّز شعر هابرلاند بقدرته على تفكيك المسلمات الثقافية واستبدالها عبر اشتباكه العميق مع أنساق الجسد، والمكان، والمقدّس، والهوية. فهي لا تكتب الشعر فقط، بل تهدم اليقين. هنا يتقاطع المحسوس بالميتافيزيقي، وتُصبح اللغة جسدًا، يعبر بين الجُزر التي نشأت الشاعرة فيها، والصحاري التي ابتلعت غربتها، واللغات التي تتشاجر داخلها على معناها. لذلك، لا يبدو شِعرها صوتًا، بل أصداء: للذاكرة، للمنفى، للماء، للايقين، والتحولات. ولذلك، يمكن من خلال قراءة شعر هابرلاند عبر عدسة الأنساق الثقافية، الكشف عن البُنى العميقة التي لا تصرخ في النص، بل تهمس به، تتحرك تحته، وتُشكّل هندسته العاطفية والرمزية، والتي ليست محايدة، إذ تُملي المعنى وتخفيه وتُسيّجه، وتعمل كقوالب ضمنية تتحكم في الخطابات. فالنسق ليس مجرد سياق، بل كيانٌ يراوغ، يتخفّى في المجاز، ويكشف لحظات التوتر والانكسار، وبالتالي، فهو ليس مجرد خلفية، بل فاعلٌ متخفٍّ كما يقول سعيد بنكراد، يتجلى في الصور المجازية، والعلاقات الرمزية، والتصورات العميقة، ويُحدّد طرائق تمثيل الجسد، والهوية، واللغة، والسلطة. وبالتالي، يمكِّنُنا من فهم الشعر كعملية تشريح للواقع الإنساني المعقد، وتفكيكه وإعادة كتابته، وفهم الاختلافات الثقافية.
في نصوص ديوانها “هايفن شَرْطَة”، الذي قمتُ بترجمة أغلب نصوصه، تنكشف من خلال تحليل نقدي للخطاب شبكة معقّدة من هذه البُنى عبر عدة أنساق مركزية وهي: نسق الجسد، ونسق المكان، ونسق المقدّس، ونسق الهوية ونسق الماء. وفي كل نسق من هذه الأنساق، تُعيد الشاعرة تفكيك ما هو مألوف، لتقول لنا: لا شيء ثابت، لا الجسد، لا الوطن، لا المقدس، ولا حتى اللغة. كل شيء عبور. وكل عبور، قصيدة.
نسق الجسد الكتابة من الإيروسي إلى الكوني
يحتل الجسد مكانة مركزية في شعر هابرلاند، ليس كموضوع للخطاب، بل كوسيلة لإدراك للعالم. هنا لا يعمل الجسد كعضو بيولوجي فقط، بل كذاكرة وتجربة، وخرائط تتوزع عبر الجلد. تكتب هابرلاند كما لو أن اللغة تنمو تحت جلدها: “أخفي النقوش بضرباتٍ جريئة من الأمل والذكرى/ على قماشةٍ هي جلدي”. وبهذا، يتحول الجسد الذي هو حدود، ويعبره اللسان، والأمم، واليدان اللتان لا نختارها، إلى منفى، وطنٍ متشِّظٍ، وخرائط تُكتب فوق البشرة، كما يتحول إلى وثيقة تُنقش عليها سياسات الهوية، العرق، الجندر، والعنف، ويصبح ساحة للتوترات، وبنية مشحونة بالرموز والمفاهيم الثقافية، وذاكرة تتكلم من المسام والتاريخ لا “الكتب السوداء”، كما يتحول إلى حقل مقاومة للجمال والتجربة عابر للزمن. في هذا السياق، لا نقرأ عن الجسد فقط، بل نمُّرُ عبره، كما نمُّرُ عبر جلد محترق، يتكلم، يتذكر، يئن، ويصرخ داخل اللغة.
هنا يتم استعادة الجسد الأنثوي، كحقل مقاومة للأنساق الثقافية التي تسعى لتدجينه أو إخضاعه، وتبرز الرموز الأسطورية الأنثوية مثل بيرسيفوني وإنانا، لتمنح الشعر بُعدًا أسطوريًا وسياسيًا تتحول بموجبه الأنوثة إلى ما يتجاوز كونها جسدًا أو دورًا اجتماعيًا، فهي قوة كونية متمردة، وحضور يتخطى التوقعات الاجتماعية والمفاهيم الثقافية السائدة.. فالمرأة في نصوصها ليست مجرد كائن يتألم، بل هي كيان يثور، يُبعث، ويسرد العالم من زاوية لا يمكن إسكاتها، ففي عالمها “لا صوت. حديقةٌ لا يمكنني الوصول إليها/ لستُ إيزيس، ولا إنانا ولا عشتار/ لن أتمكن من الدخول ولملمة أطراف حبيبي المقطعة / لن أجمع عظامه وأعيد نفخ الروح فيها/ لن أبكي على جسده وأسقيه ليعود إلى الحياة/ هو سيلوح/ سيتحدث/ أنا سأرى فقط / ولن أتمكن من سماع صوته المبتسم”. وفي قصائد مثل “أغنية الحوريات” و”سباحة بيرسيفوني”، يتماهى الجسد مع البحر، ويتعرض للإمحَّاء، ثم يعود إلى الحياة من جديد.
يعيد هذا النسق الكتابة بين الجسد والروح، مُحوِّلًا الجسد إلى مساحة لتأملاتٍ فلسفيةٍ في الألم، الرغبة، والإمِّحاء. الجسد الأنثوي في قصائدها ليس مجرد أداة للتعبير عن تجربة فردية، بل هو أيضًا تجسيد للنسق الثقافي في العالم ما بعد الاستعماري، ومسرحٌ لصراعات متعددة: بين العرق والجندر، بين الوطن والمنفى، وبين المقدّس والمدنّس. الجلد في شعرها لا ينسى، بل يخزّن، يتذكر، ويقاوم عبر التذكر: “كنتُ أريد أن أخبر أصدقائي أن يسكتوا/ أن يتوقفوا عن الكلام /حتى أتمكن من التركيز أكثر على تذكرهم/ كنتُ أريد أن ألمسهم بطريقة ما/ بكلماتي. بأصابعي. بشفاهي”. وبالتالي، فهو جسد محمّل بالذاكرة، القلق، والمقاومة، وعبره تنبثق هويات جديدة، غير ثابتة، تتجاوز الأطر التقليدية وتستعصي على التصنيف.
تقلب هابرلاند السردية التقليدية عن التقديس، وتستعيد اللمسة والنظرة والجسد كفعل عنف ورفض، لا كفعل حب. وبهذا المعنى، تتقاطع أنوثتها الشعرية مع ما تسميه هيلين سيكسو بـ “كتابة الجسد”، حيث لا يُعبّر الجسد الأنثوي عن ذاته فقط، بل يكتب نفسه، حيث تتحول الأنوثة إلى خطاب بديل، يقاوم أنساق التشييء والهيمنة، ويخلق رمزية شعرية تنطلق من الهامش. يعيدنا هذا إلى تنظيرات فوكو حول التمثيل والهيمنة، حيث يتحول الجسد إلى أرض للصراع على السلطة. في شعرها، لا يستسلم الجسد لهذا التطويع، بل يتمرد عليه باستخدام لغة الشعر. تقول الشاعرة: “نعترف بخطايانا لجسدك المخفي في الظلام/ الانتباه يحوم بين شكلك المتخيل/ ورائحة وجودك الحقيقية كلنا النساء اللواتي يعطشّن لدمك، ونظرتك، وغفرانك/ ولكن بشكل أساسي للقداسة فيك نطلب منك أن تزوجنا/ لرجل آخر، لجسد آخر، لحياة أخرى”.
نسق المكان الجغرافيا كاستعارة ثقافية
بينما يمثِّل المكان حقلًا رمزيًا ومجازيًا في شِعرها، فإنه لا يُعرَّف بوصفه جغرافيا، بل ذاكرةً، جرحًا، استعارةً، وجسدًا حيّا يتنفس، ينزف، ويقاوم. تنتمي تانيا فعليًا إلى أرخبيل من الجغرافيا، حيث لا انتماء ثابت ولا هوية مستقرّة، بل حركة دائمة بين البيت والمنفى، وبين الأرض والحدود، تقول الشاعرة، “أنا من جزيرة صغيرة/ شواطئها مثل أكمام سترة/ صغيرة الحجم بمقاسين/ تشد على إبطَيَّ/ غير مريحة ومع ذلك، لا أريد/ أن أتنازل عنها أو أن أرميها”. الجزيرة ليست هنا مجرد موقع جغرافي، بل تعبير عن قطيعة وجودية دائمة، يقاس فيها الغياب بالماء، وتترجم فيها العزلة إلى تجربة شعورية؛ حيث “في بطن الوحش/ جميع الجدران تمثِّل ما نصفه بـ “غير مضيئة” وأعني معتمة، لكنها مساميَّة”. البيت والجدران هنا ليسا مجرد تعريف لمكان، بل استعارة ثقافية تشكّل الذات دون أن تُملي تعريفًا نهائيًا لها، وجِلد آخر تُكتب عليه الذاكرة والحنين اللذان يتحولان بدورهما إلى مكان حقيقي يُروى بلغات الآخرين تقابلها سردية خاصة بالذات والذاكرة، تتسرب من المسامات وضد الجاهز والمُعلَّب: “كان يمكن شمّ الملح/ وهو يحنّط الأرض كي يُعدَّها لدورها كقبر/ كانت السماء سجادة صلاة سحرية/ تطفو قبل أن يبدأ السرد/ كان هذا زمن ما قد مضى”.
يتجاوز المكان الجغرافيا أيضًا إلى الاشتغال كوسيلة لاستعادة الذاكرة الفردية والجماعية. في قصيدة “الهاوية”، تصف الشاعرة وقوفها طفلة على حافة الصخور البركانية أمام فجوة بحرية تدعى “الهاوية الخطرة”، قائلة “سبحنا في حكايات عن أشخاص وحيوانات ميتة/ ووحش يبتلعك إلى حفرة لا قاع لها/ البحر عكِر هناك رماديأخضر مريض/ وقفنا على الصخور السوداء، مغطاة بالملح، قرابين حارقة تحت الشمس/ قلوبنا تخفق مثل أجنحة الطيور المحتجزة/ وبأرجل مرتجفة/ قفزنا/ لم يصل أحد إلى القاع، ولم يمت أحد”. وبهذا المنحى، تصبح الفجوة استعارة للخوف الكامن، لحضور لا يختفي، لكنه يتسلل في كل طريق وكل ذاكرة. وهكذا لا يعود المكان خلفية للأحداث، بل يصبح بُنية نفسية وعاطفية تسكن الوعي واللاوعي. وهو نسق متكرر يُشكل علاقة الفرد بالفضاء. الطفولة ذاتها لا تشكل ملجأً، بل أرضًا ميثولوجية تتقاطع مع الحاضر “هناك هاوية من طفولتي”، والحاضر هوية سلبية:”هي نعومة الهواء/ تلتصق بي كأعشاب البحر/ وَادِعة وأليفة/ قبل أن تتحوّل إلى خيبة”.
إضافة إلى ذلك، لا يُستعاد المكان هنا بوصفه خلفية للأحداث، بل كفضاء للعنف والتهميش، وتمثيل لصراع الهيمنة على المكان.. ففي قصيدة “في وسط الصحراء”، تقول الشاعرة “أتذكر وسط الصحراء/ القطط المهجورة في وسط الصحراء/ تخيلت الصراخ/ كنت أعتقد أنني أستطيع التحكم في أحلامي بمجرد أن أغلق عيني بإحكام/ فعلت، تبعت الصراخ، محاولة المشي أثناء النوم وسط الصحراء”. بهذا المعنى، تتقاطع نصوص هابرلاند مع فكر إدوارد سعيد حول “المنفى” و”الهوية المتنقّلة”، حيث لا يعيش الفرد في مكانٍ واحد، بل في مفترقات الذاكرة والانتماء. ليست الهوية في شعرها إجابة، بل سؤالٌ دائم، ومكانٌ قلقٌ يزدهر من ارتباكه، كما يتقاطع مع تنظيراته عن أن الفضاء نفسه يمكن أن يُستخدم كمكان للصراع على التمثيلات.
نسق المقدّس التمزق بين اليومي والرمزي
تطرح قصائد هابرلاند تساؤلات وجودية حول الله، والإيمان، والمعنى، لا يحضر المقدّس بوصفه صورة مطمئنة أو مرجعية دينية تقليدية، بل كتوتر داخلي ولحظة تمزّق. ومفارقة وخذلان، تدفع الذات إلى مساءلة المعنى، والغياب والطمأنينة والشك: “قال لها رجل دين ذو عيون صفراء/ وكلبَين كبيرَين أسودَين كانا ينبحان إلى الأبد/ أن الصوت لم يكن صوت الله. كانت ابنة الشيطان/ وتوقف إلهها عن الكلام”. وهنا، لا يتجلى المقدّس كسلطة عُليا أو ككيان منزّه، بل كشرخٍ داخلي، كحالة شعورية هاربة بين الرغبة والخذلان. إنه لحظة مضطربة تنبثق من اليومي، من تفاصيل الجسد والذاكرة، لا من المعابد والصلوات. بذلك، لا تحتفي الشاعرة بالمقدس، بل تفتحه على جراحه، على تلك المناطق الملتبسة التي تُقدّّس فيها الحياة اليومية ببساطتها وارتباكها “أحب الكتب السوداء/ تصبح لذيذة بشكل خاص/ عندما تكون صفحاتها لم تُمسّ بعد/ وأعناقها العذراء لم تنكسر”.
تتبنى هابرلاند موقفًا وجوديًا يصبح بموجبه الصمت نقيضًا للسكينة، وغياب الإله ليس مأساة دينية، بل تجربة وجودية، حيث يتحوّل البحث عن الله إلى رحلة ذاتية بلا مآل محدد.، ويكون مصيرها الطرد: في قصيدة “تجلّي الإله” تتلقى الشاعرة رسالة طرد من العذراء نفسها “أنتِ لا تنتمين إلى هنا. ارحلي”. يعكس هذا نسقًا وجوديًا حول انقطاع التواصل مع المقدس. لا يحضر المقدّس، إذن، كمنارة أو منقذ، بل كمساحة صامتة، تعج بالرغبات المكبوتة. ففي قصيدة “الإله المختفي” أو “الإله المجهول”، نجد أن المقدس ذاته قد تلاشى، وتحولت الكنيسة إلى فضاء صامت محروق بالرغبات الخائبة. هنا، “الكنيسة تشتغل بالأنين الحار الملتصق بالأرض في صمت/ تنحني الركب وتئن.” هذا الانسلاخ عن الإله يرتبط بنمط تفكيكي للنصوص الدينية، حيث تغدو النصوص المقدسة بلا مركز، مفتوحة على قراءة لا نهائية كما نراه في فكر رولان بارت أو جاك دريدا.
المقدّس في شعرها ليس يقينًا، بل ارتباكًا، والصمت، في رؤيتها، ليس خواءً، بل امتلاء بالمعنى، بمواجهة الذات لنفسها، فيما يشبه التأمل أو حتى الرهبة. هذا التصور يذكّرنا بمقاربات الفيلسوف إميل سيوران، الذي يرى في المقدّس حقلًا يتراوح بين الوضوح والغموض، بين الحضور والشك، هو لحظة شخصية، لا تتجسد في طقس أو كنيسة، بل في تجربة روحية متحركة ومؤقتة، فشِعرها لا يبحث عن يقين، بل يعيد خلق المقدّس في صور متحوّلة، تعكس صراع الإنسان الحديث مع الغياب والبحث والمعنى. إنها تكتب المقدّس كفوضى خلاقة، كحقل تجريبي تتحرك فيه الروح بين النور والظل، وبين الاحتراق والانبعاث، هناك “لا ترانيم. فقط صوت. الريح البعيدة تنحت ركب المؤمنين —تبني بأجسادهم كاتدرائيات في السحب/ وبعقولهم مساجد/ تطفو معابد أحلام الليلة الماضية في الهواء/ لتلتقي بالمد”.
نسق الهوية: تقاطعات الذات واللغة والجغرافيا
الهوية في شعر تانيا هابرلاند ليست حالة ثابتة، ولا تعريفًا نهائيًا لها. إنها حركة مستمرة، تتأرجح بين الحواس والجغرافيا، بين الماضي والمستقبل، بين التقاليد والاختيارات الفردية. في عالمها الشعري، لا تتجسّد الهوية في إطار قومي أو لغوي جامد، بل كتشظٍّ خلَّاق، وكقوة تربط بين الذاتي والمشترك، بين المحلي والغريب. لا تنظر هابرلاند إلى التمزق الداخلي بوصفه ضعفًا، بل قوةً خلاقة. الشظايا المتناثرة تشكل ذاتًا متعددة الأصوات، متصالحة مع التناقضات التي تعيش فيها. تتجاوز الهوية الانتماءات الجغرافية والولادات القومية، لتصبح سجلًا حيًّا للتجارب.
يتجلى هذا في الخسارات التي تمنى بها هويتها حيث تقول “سأكون في انتظارك في البار، على مفترق شارعين، أرتشف النسيان لأتعامل مع خسارتي. المكافأة تتضمن مشروبًا وهوية إضافية تفترض أن من يجدني هو أيضا حارسي.” هنا، لا تصوغ الشاعرة ذاتها من داخل ثقافتها فقط، بل عبر تمرّدها عليها، والتحرر من سلاسل الماضي، من القيود الثقافية والوجودية التي تفرضها الأنماط الجغرافية والاجتماعية. تتنقل تانيا بين هويات متناقضة، تبحث عن مساحة للحرية وسط تضارب المفاهيم الثقافية، حيث يتداخل الماضي والحاضر، وتتمزق العلاقة بين ما كان مفروضًا وبين ما قد يكون. هذه الهويات المتعددة هي حالة من التحولات المستمرة في شعرها، حيث لا يوجد تعريف ثابت للذات. فالمفترق هو المكان الذي تُفكك فيه القيود وتُعاد فيه كتابتها أي الذات، خارج التوقعات وخارج خرائط الهوية التقليدية. في هذا السياق، يعكس الانتظار شوقا لاكتشافها واعترافا بضياعها.
في قصيدتها “قصص حقيقية”، تقول الشاعرة: “رقصت مع جراء الكلاب البرية وسط عش من أكياس الأسمنت في موقع البناء”. فضلًا عن التلاعب بين الواقعي والمتخيل، تُستعاد الهوية هنا ككائن أسطوري، متوحش وطفولي في آن، ما يعكس رؤية كويرية ترى الهوية كعملية تفاوض لا كجوهرٍ ثابت. وفي قصيدتها “في الوسط”، تختصر تانيا موقعها، فهي ليست صغيرة. وليست كبيرة، بل في المنتصف. هذا “المنتصف” ليس موقع ضعف، بل فضاء رمادي مفتوح للإبداع. إنه الهامش، حيث تُخلق الذات من الهروب بين التعريفات، لا من الاستقرار فيها.
نسق الماء، والطبيعة كرموز ثقافية وهويات متحوّلة
يحضر الماء في شعر تانيا هابرلاند كرمز كثيف المعنى، تتداخل فيه الذاكرة الشخصية مع الأسطورة الجماعية، وتنعكس من خلاله خلفياتها المتعددة بين موريشيوس، إفريقيا، وجنوب إفريقيا. الماء هنا ليس مجرد خلفية طبيعية، بل هو نَفَسٌ ثقافي يُعبِّر عن التمزق، الرحيل، والحنين. كما لا تشكل الطبيعة، بدورها، خلفية شعرية، بل هي فاعلٌ سردي. وكائن حيّ يتألم مع البشر، ويتلوث بالحرب “أخذتنا أمنا إلى البحر/ لترينا الأسماك والقواقع/ لكننا رأينا الطيور، مغطاة بالزيت ينفجر من شواطئ العراق، ينزلق عبر الخليج في اللهب”. القصيدة شاهدٌ على الجرح الإنساني، ومرآةٌ للقلق الوجودي. الطيور، الرمال، الغيوم، جميعها كائنات ناطقة، تتنفس وتتفاعل، وتُعبّر عن هشاشة العالم وتوقه للشفا، الذي يشكل مشروعًا شعريًا حداثيًا يعكسه مشروع تانيا الشعري. تستبطن هذه الصور رموزًا أنثوية أيضًا، حيث يُستدعى الماء بوصفه كيانًا سيّالًا، حنونًا ومخيفًا في آن، وكما في الميثولوجيا حيث يرتبط الماء بالخصوبة والتحوّل والخطر.
من منظور نسقي، يتجاوز الماء رمزيته المباشرة ليعكس حالة السيولة في الهوية، تهشيم الحدود بين الذاتي والجمعي، بين الحسي والروحي. ففي شعرها، لا يشكل الماء فقط رمزًا للمنفى، بل أيضًا لحالة الوجود المعلق، حيث تصبح الذات في حالة عبور دائم. ففي قصيدة “سباحة بيرسيفوني”، تكتب: “عدتُ وأنا أتذكّر النهر، عرفتُ حُبّه.” الماء هنا يحمل أصداء أسطورة بيرسيفوني، التي تهبط إلى العالم السفلي وتعود، محملة بالمعرفة والتغيير والتحولات. في هذه السطور، يصبح الماء طقسًا شعائريًا، يعبر عبره الجسد إلى وعي أعمق بذاته، بين الموت والتحوّل، بين الذاكرة والانبعاث، كما يتحول إلى وسيط للانتقال بين العوالم، بين الحياة والموت، وبين التجربة الحسية والوعي العميق بالذات.
أما في “الهاوية”، فيأخذ الماء بُعدًا أكثر ظلمة، حيث يتحوّل إلى هوّة نفسية”:” عندما عدت إلى اليابسة/ استمر نبض البحر يدق في أذني/ مثل صَدَفة ضخمة تبتلعني حيّة/ لكنني ضحكت وابتسمت مع الآخرين/ أعي أنني قد واجهت شيئًا عميقًا هناك/ حفرة خطيرة لا يمكن تفسيرها/ ستظل تحدق بي/ وتظل تتسع وتضيق/ مثل المد والجزر/ ودورات القمر/ موجودة دائمًا/ فتحت كل طريق أمشي عليه، تنتظر”. هذا الصوت القادم من المحيط لا ينقل سكينة البحر، بل صدى التاريخ المنسي، وصرخات أولئك الذين غرقوا على هامش السرديات الرسمية. هنا، يصبح الماء حاملًا للذاكرة المقموعة، وجسرًا بين الذاتي والتاريخي، بين الأمومة والضياع. كما أن المدّ هنا ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل استعارة للاضطراب الداخلي، للتقلّب الوجودي. الماء في هذه الحالة، يعكس الماء هشاشة الذات، وانعدام الثبات في عالم مضطرب.
تعددية النسق وشعرية الهامش
نجحت هابرلاند في صياغة عالم شعري تتقاطع فيه الجسدية مع الروحي، والأسطورة مع اليومي، والمقدّس مع المدنس. هي شاعرة تعبر بين الثقافات دون أن تفقد موقع قدميها، وتنقش تجربة الذات على جسد اللغة، لتبقى قصائدها متاحة لتعدد القراءات، ولتظلّ حية ومفتوحة كما الوجود نفسه. حيث يلتقي الماء بالذاكرة، والهوية بالجسد، والأسطورة بة اليومية، وبهذ، تنبعث قصيدتها نابضة بالحياة والقلق. شعرها لا يطرح أجوبة، بل يصنع فضاءً للتأمل، يسائل علاقتنا بالعالم وبأنفسنا بوصفنا كائنات متغيرة في عالم دائم التحول. وفي زمن يُعاد فيه تشكيل مفاهيم الجسد والانتماء والهوية، تأتي تجربة هابرلاند كتذكير حسي بأن الشعر يمكن أن يكون مساحة للمواجهة، للتماهي، وللمقاومة. هي كتابة على الحافة — لا تخشى السقوط، بل تستخرجه كمعنى جديد. ولعل هذا ما يجعل صوتها عابرًا للخرائط، متجذرًا في سؤال بسيط ومخيف: من نكون، وماذا حين لا يبقى لنا إلا ما نتذكره بأجسادنا؟