تشريع الرخص لرفع الحرج واستدامة التزام المكلفين بالتشريع
جاءت شريعتنا الغراء لإقامة مصالح الناس، وتحقيق سعادتهم الدنيوية والأخروية، وبناء عليه، فإن كل أمر يفضي إلى إبطال هذه الغاية، أو الإخلال بها مدفوع عن الشريعة، ولما كان الحرج ذلك شأنه، فإن الشريعة دلّت على رفعه عن أحكامها وتصرفاتها.
ولإقامة هذا الأصل وتحقيقه، عمدت الشريعة إلى تشريع الرخص في محل الأعذار عندما تعرض للمكلفين، ولقد اتفقت كلمة العلماء على أن الرخصة تغيير الفعل من الصعوبة إلى السهولة لعذر عرض لفاعله، وضرورة اقتضت عدم اعتداد الشريعة بما في الفعل المشروع من جلب مصلحة أو دفع مفسدة مقابل المضرة العارضة لارتكاب الفعل المشتمل على المفسدة.
وللرخصة في التشريع وجوه منها:
الرخصة الخاصة في محل الأعذار الموجبة لذلك حملا للمكلفين على جهة التيسير، ونفيا للحرج المترتب عن المشقة غير المعتادة التي قد تلحقهم إذا ما التزموا بالعزائم في تلك المواقع.
ولقد دلّت الأدلة عموما وخصوصا على مشروعية الرخص، من ذلك قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} البقرة:١٧٣، وقوله تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه} الأنعام:١١٩، وقوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} المائدة:٣، وقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} البقرة:١٨٤، وتؤكد السنة المطهرة هذا الأمر، من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته”، قال ابن عمر تعليقا على الحديث: “من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة”، ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم: “ليس من البر الصوم في السفر”، وعلق الأبي على هذا الحديث فقال: “أي ليس البر الكامل الصيام في السفر بل الفطر أيضا، لأنه سبحانه يحب أن تؤتى رخصه”. وعلق الشاطبي على هذه الأدلة فقال: “ما ثبت من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة، كرخص القصر والفطر والجمع، وتناول المحرمات، والاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة”.
وإذا تأملت، وجدت أن تشريع الرخص في محل العزائم يعود إلى عظم المصلحة التي تستند إليها تلك الرخص، أو لحصول المقصود منها، ما يحصل من العزيمة لكن مع سهولة وتخفيف، قال ابن حجر: “إن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع”.
الرخصة العامة الدائمة، وهي ما حمل من التصرفات على الجواز مع اقتضاء أصلها الكلي المنع مطلقا دون التوقف على عذر، وذلك تخفيفا وتسهيلا على المكلفين ورفعا للحرج عنهم، فيما دعت إليه ضرورات عامة مطردة، أو ما تقتضيه حوائجهم في الأحوال العادية، مما كان سببا في تشريع عام في أنواع من التشريعات مستثناة من أصول كان شأنها المنع، ويطلق عليه الأصوليون (بالمشروع على خلاف القياس)، ومثال هذا السلم الذي استثني من بيع ما ليس عند الإنسان الذي ورد فيه النهي “نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان”، وكذلك المغارسة والمساقاة فهي مشروعة باطراد، ومن هذا القبيل أيضا الإجارة، فهي مستثناة من أصل بيع المعدوم، وهو باطل شرعا، وسبب ذلك يعود لانعدام محل العقد وقت التعاقد، ونظرا لمسيس الحاجة إليها وحصول الحرج بمنعها، أجيزت على خلاف أصلها، حيث قال تعالى: {أرضعن لكم فآتوهن أجورهن واتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} الطلاق:٦، وقوله صلى الله عليه وسلم: “ومن استأجر أجيرا فليعطه أجره”.
الرخصة العامة المؤقتة، فإلى جانب الترخيص عند الضرورة بإباحة المحظور، وكذلك الترخيص بإباحة ما أجيز على خلاف القياس توسعة على الناس وسد حاجاتهم، فهناك نوع ثالث لم يلتفت إليه الفقهاء أو هو مغفول عنه وهو “الضرورة العامة المؤقتة” وقد تحدث عنها الشيخ الطاهر ابن عاشور، وذلك أن بعض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي؛ مثل سلامة الأمة وإبقاء قوتها، أو نحو ذلك من المقاصد التي لا تخفى على المجتهدين، وهذا التوقيت وهذا العموم في هذا القسم مقول على كليهما بالتفاوت، ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة.
وليست أمثلة هذا النوع من الرخصة بكثيرة، فمنها الكراء المؤبد الذي جاءت به فتوى علماء الأندلس: ابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع لما تحتاجه أرض الزرع من قوة الخدمة ووفرة المصاريف لطول تبويرها، وزهدوا في كرائها للغرس والبناء لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لمثلها والإباية الباني أو الغارس أن يبني أو يغرس ثم يقلع ما أحدثه في الأرض. فأفتى ابن سراج وابن منظور بكرائها على التأبيد، ورأيا أن التأبيد لا غرر فيه لأنها باقية غير زائلة. وقد يطرأ من الضرورات ما هو أشد من ذلك، فالواجب رعيه وإعطاؤه ما يناسبه من الأحكام.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر