أمد/ يمثّل اعتماد مجلس الأمن للقرار 2803، بأغلبية 13 صوتاً وامتناع كلٍّ من روسيا والصين، لحظة سياسية فارقة تكشف عن تحوّل جوهري في آليات التعامل الدولي مع ملف غزة، وتعبّر في الوقت ذاته عن صعود دور أمريكي مباشر في صياغة نظام سياسيأمني جديد للقطاع. هذا القرار، الذي جاء ثمرة مسودة أميركية صلبة تستند إلى «خطة النقاط العشرين» التي روّج لها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم يكن مجرد خطوة إجرائية بقدر ما كان إعلاناً عن مرحلة جديدة تتجاوز العرف التقليدي لمجلس الأمن في إدارة النزاعات.
وفي هذا السياق، يبرز تصريح السفير الفرنسي السابق لدى إسرائيل، جيرار أرو، الذي وصف ما جرى بأنه «كش ملك» من ترامب في الشرق الأوسط، هذا التشبيه لا يخلو من دلالة سياسية عميقة، ولا من قراءة براغماتية لطبيعة القرار الدولي وللنفوذ الأميركي المتعاظم داخله.
فمجلس الأمن، ولأول مرة منذ عقود، يمنح الولايات المتحدة موقعًا مؤسسيًا متقدّمًا في إدارة مرحلة ما بعد الحرب في غزة، عبر إشراكها في تشكيل «مجلس السلام» الذي سيشرف على الترتيبات الإدارية والاقتصادية، إضافة إلى قيادة «قوة الاستقرار الدولية» المفوضة بضبط الأمن ومنع الفراغ السلطوي.
خطورة التحوّل لا تكمن في وجود قوة متعددة الجنسيات فحسب، بل في طبيعة الصلاحيات الواسعة الممنوحة للمجلس الانتقالي الجديد، وفي غياب مرجعيات سياسية واضحة تربطه بقرارات سابقة مثل 242 و338 أو التفاهمات الثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، هنا تحديدًا يقرأ أرو هذا التطور باعتباره «تجاوزًا» للنظام المرجعي التقليدي، وإعادة رسم لقواعد اللعبة لصالح المبادرة الأميركية، بما يتيح لواشنطن إدارة شؤون غزة لفترة قد تطول، وتُستخدم لاحقًا كورقة ضغط على الأطراف كافة.
مع ذلك، وبالرغم من قوة هذه القراءة، فإن وصف «كش ملك» لا يبدو كاملًا أو نهائيًا، فالقرار الأممي، مهما كانت صياغته، لا يضمن تنفيذًا سلسًا أو قبولاً ميدانياً.
فالمشهد الداخلي الفلسطيني شديد التعقيد: سلطة فلسطينية تبحث عن استعادة دورها، وحماس وسائر الفصائل التي ترى في أي إدارة دولية تهديدًا لموقعها، إضافة إلى بيئة اجتماعية مدمّرة تستقبل أي ترتيبات جديدة بشكوك عميقة.
إلى جانب ذلك، فإن امتناع روسيا والصين عن التصويت يحمل رسائل استراتيجية واضحة، مفادها أن واشنطن لن تعمل في فراغ جيوسياسي، وأن رؤيتها لغزة ليست محلّ إجماع دولي.
على الجانب العربي، يظل السؤال الأكثر إلحاحاً: هل يمهّد القرار لمرحلة استقرار حقيقية تُفضي إلى حل سياسي يعيد الاعتبار لحقوق الشعب الفلسطيني؟ أم أننا أمام هندسة جديدة تُعاد فيها صياغة غزة بمعزل عن المسار الوطني العام، وبطريقة قد تكرّس الانقسام، أو تعيد رسم الجغرافيا السياسية للقطاع بعيداً عن إطار الدولة الفلسطينية المستقلة؟
ما هو واضح أن القرار 2803 يعكس نفوذاً أميركياً متقدّمًا واستعدادًا دوليًا لمنح واشنطن الدور القيادي في إعادة تشكيل الوضع في غزة.
لكن مستقبل هذا «الكش ملك» سيظل مرهونًا بقدرة الولايات المتحدة على تحويل التفويض الدولي إلى واقع مقبول، وبمدى احترام هذه الإدارة الدولية المؤقتة لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، بعيدًا عن أي ترتيبات تنتقص من سيادتهم أو تُبقي القضية رهينة التجاذبات.
في النهاية، لا يمكن قراءة القرار خارج سياق الصراع الأكبر على شكل الشرق الأوسط المقبل: صراع على النفوذ، والأدوار، وشرعية إدارة ما بعد الحرب، وبينما يرى أرو أن ترامب حسم اللعبة، فإن الحقيقة الميدانية والسياسية ما تزال مفتوحة على احتمالات متعددة… بعضها قد يُفاجئ حتى اللاعبين الكبار أنفسهم.

شاركها.