أمد/ بعد مرور سنة تقريبا على الحرب على غزة، والتي تجاوزت كل التوقعات، كنت قد نشرت في الأول من سبتمبر ٢٠٢٤، مقالي بعنوان “كيف يساهم تحالف القوى الإقليمية الأربع في الشرق الأوسط لتصحيح المسار التاريخي للشرق الأوسط”، باللغتين العربية والانجليزية على صفحات مركز ستراتيجيكس للدراسات والبحوث طرحت فيه رؤية تقوم على بناء تحالف استراتيجي بين مصر والسعودية وتركيا وإيران، وهو ما أطلقت عليه تحالف (SETI). تلك الرؤية لم تكن مجرد فكرة سياسية، بل كانت محاولة لاستقراء المسار التاريخي الطويل للهيمنة الغربية الاستعمارية التي حكمت المنطقة منذ بدايات القرن العشرين، بطريقة ابقتها ساحة صراع مفتوح، حرم شعوبها من الاستقرار والنماء، معتمدًا سياسة “فرّق تسد”، وزارعًا إسرائيل كدولة وظيفية وكقاعدة متقدمة للمشروع الغربي الاستعماري، والتي تولت منذ انشائها مهمة الحفاظ على الصراع مشتعلا، وإبقاء المنطقة في حالة توتر دائم يستنزف طاقات وامكانيات شعوبها، ومصادرها الطبيعية.

 

اليوم، وبعد مرور سنة أخرى على هذه الحرب التي طال امدها، دون ان تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها في غزة على الرغم من تحول هذه الحرب الي حرب إبادة وتجويع حصدت أكثر من مئتي شهيد وجريح معظمهم من النساء والأطفال، وترافق ذلك مع صمود مذهل للمقاومة الفلسطينية، اليوم تتجلى الحاجة إلى هذا التحالف بشكل أكثر إلحاحًا. خاصة وان الهجوم الإسرائيلي على قطر الدولة التي تتوسط منذ بداية الحرب لإنهائها، فرض واقعًا جديدًا يثبت أن إسرائيل لم تعد تسعى لإخضاع الفلسطينيين وحدهم، بل تعمل على فرض هيمنة كاملة على الشرق الأوسط، انسجامًا مع مشروعها العقائدي المعروف بإسرائيل الكبرى”.

 

ويبدو ان إسرائيل، بعد ان سيطر على الحكم فيها اليمين الأيديولوجي المتطرف، برئاسة شخص مطلوب للقضاء الإسرائيلي وللعدالة الدولية، تعمل على تحويل الدولة من كيان وظيفي وقاعدة عسكريةأمنية للغرب إلى مشروع هيمنة على الشرق الأوسط. وهذا ما كشفته التحولات الجارية والتي تثبت انتقال إسرائيل من دور “الوكيل” إلى محاولة لعب دور “المهيمن”. فالحرب على غزة أثبتت فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه رغم ما ارتكبه من مجازر، كما كشفت هشاشة الصورة التي بناها لنفسه كجيش لا يُقهر. ومع ذلك، فإن الدعم الغربي المفتوح مكّن إسرائيل من الاستمرار في عدوانها، ومن توسيع دوائر استهدافها لتشمل دولًا عربية أخرى مثل قطر.

 

هذا التحول يعكس أن إسرائيل ترى اللحظة الراهنة فرصة تاريخية لفرض وقائع جديدة في الإقليم، مستندة إلى غياب مشروع عربيإسلامي مضاد، وإلى تفكك النظام الدولي الذي يعاد تشكيله في ضوء الحرب في أوكرانيا وصعود التعددية القطبية.

كما ذكرت في مقالي السابق فان الغرب لم يتمكن من السيطرة على المنطقة الا بعد ان أعاد وبالقوة كل من مصر وإيران والدولة العثمانية(تركيا) الى حدودهم الداخلية، ولذلك فان

 رؤية التحالف بين مصر والسعودية وتركيا وإيران تستند إلى إدراك أن هذه الدول الأربع تشكل الأركان الاستراتيجية الأساسية في الشرق الأوسط.

          •       مصر: بتاريخها وبثقلها البشري والعسكري، وموقعها الجغرافي وسيطرتها على قناة السويس، تشكل بوابة أفريقيا والشرق الأوسط معًا.

          •       السعودية: بما تملكه من ثقل اقتصادي وديني وسياسي، قادرة على توفير العمق المالي والرمزي لأي مشروع إقليمي.

          •       تركيا:  بتاريخها وثقلها البشري، وعلاقاتها التاريخية مع المنطقة وشعوبها، وبموقعها الجيوسياسي وإمكاناتها العسكرية، تمثل حلقة وصل بين الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا.

          •       إيران: أيضا بتاريخها وثقلها البشري وعلاقاتها تاريخيا بالمنطقة، وبما لديها من إمكانات علمية وعسكرية وقدرة على الحشد، تمثل قوة صاعدة لا يمكن تجاوزها.

 

 ان هذه المرتكزات والقدرات للقوى الإقليمية الأربع، إذا تحالفت، ستصبح قوة متكاملة قادرة على فرض معادلات جديدة، وعلى تحرير المنطقة من الارتهان للغرب ومن التهديد الإسرائيلي.

التحديات والمعيقات

 

لا شك أن الطريق نحو هذا التحالف ليس سهلًا. واعداؤه في الداخل والخارج كثيرون، فهناك   خلافات تاريخية ومذهبية وسياسية، ومن المؤكد ان الغرب سيتدخل بشكل دائم

 لإبقاء التناقضات بين هذه الدول مفتوحة. ناهيك عن تضارب المصالح الاقتصادية والأمنية بين هذه القوى. لكن التجارب العالمية تثبت أن التحالفات الكبرى لم تنشأ من فراغ، بل من إدراك مشترك لحجم الخطر. كما أن الحرب في غزة والاعتداء على قطر يثبتان أن الخطر الإسرائيلي لم يعد قضية فلسطينية أو عربية جزئية، بل تهديدًا استراتيجيًا شاملًا يستهدف الجميع. وإنجاز هذا التحالف وان كان صعبا الا انه ليس مستحيلا، خاصة وان هذه الدول الأربع تتحالف وتتعاون وتنسق فيما بينها ضمن اطر دولية وإقليمية أخرى، وإذا كان الامر كذلك، فهذا يعني إمكانية نجاح هذه الدول في تحالفها في الحيز الجغرافي الذي تنتمي اليه وه منطقة الشرق الأوسط، وعلى سبيل المثال أورد هنا التحالفات والاطر الدولية والإقليمية التي تتشارك فيها هذه القوى الأربع:

مجموعة بريكس (BRICS+)، السعودية ومصر وإيران انضموا رسميا عام ٢٠٢٤ بينما تركيا مهتمة ومرشحة للانضمام الي المجموعة. وطابع هذا التحالف اقتصاديجيوسياسي يسعى لتقليل الهيمنة الغربية وبخاصة الدولار.

منظمة شنغهاي للتعاون SCO))، إيران عضو كامل بينما السعودية ومصر وتركيا يعتبرون شركاء حوار، وهم أعضاء مراقبون في المنظمة. وطابع هذه المنظمة أمنى اقتصادي بقيادة الصين وروسيا.

منظمة التعاون الإسلامي (OIC)

مجلس التعاون العربي الإسلامي الجديد، التقارب السعودي الإيراني التركي المصري بدأ يظهر منذ ٢٠٢٢٢٠٢٣ بعد المصالحة الإيرانية السعودية، واحتمالية تعزيز العلاقة عبر هذا المجلس مرتفعة باعتباره بوابة لتأسيس وتعزيز الثقة بين الأطراف الأربعة.

بالإضافة الى انخراط هذه الدول في التحالفات الدولية التي سبق ذكرها، هناك تحالفات ثنائية اقليمية بين الدول الأربعة مثل عودة العلاقات السياسية بين مصر وتركيا ٢٠٢٣٢٠٢٤، وكذلك المصالحة التاريخية بين السعودية وإيران بوساطة صينية ٢٠٢٣، والتنسيق الأمني الاقتصادي المتصاعد بين السعودية وتركيا، ويمكننا القول ان التقاطع مرتفع لأنه يشكل البنية التحتية لبناء التحالف الرباعي.

أوبك (OPEC) السعودية وإيران عضوين رئيسيين، مصر وتركيا مرتبطان بأسواق الطاقة، ولكنهما ليسا عضوين

منتدى غاز شرق المتوسط مصر وتركيا وإيران أعضاء

 

وهذا نستنتج ان هذه الدول منخرطة بالفعل في تحالفات معادية للغرب بريكس(BRICS واس سي او ( SCO) والتي تقودها  قوى خارجية هي الصين وروسيا (ولكن تحالفها يعزز قوتها داخل هذه التحالفات، والتحالف الرباعي هذا اذا تحقق، فسيكون اول تحالف دولي مستقل بقيادة الشرق الأوسط نفسه يوازن القوي الكبرى ويضع حدا للمشروع الإسرائيلي.

 

 لحظة تاريخية لا يجوز تفويتها

 

المشهد الدولي الراهن يتسم بتحولات عميقة نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، الامر الذي يفتح نافذة تاريخية لدول المنطقة لتعيد تموضعها، وتبني تحالفًا قادرًا على التعامل مع القوى الكبرى من موقع الندّية لا التبعية. إن عدم استثمار هذه اللحظة سيترك الشرق الأوسط ساحة مفتوحة لمشروع “إسرائيل الكبرى”، بما يعنيه ذلك من ضياع للسيادة والثروات والهوية.

 

ما كان في الماضي رؤية استراتيجية بعيدة المدى، أصبح اليوم ضرورة وجودية عاجلة. تحالف القوى الإقليمية الأربع ليس خيارًا ترفيًا، بل هو خط الدفاع الأخير أمام مشروع الهيمنة الإسرائيلي. إما أن تتحرك هذه الدول وتبني أسس التعاون المشترك، أو أن تستسلم المنطقة لواقع جديد تكون فيه إسرائيل القطب المهيمن على الشرق الأوسط بأسره.

 

إن المسؤولية اليوم تقع على عاتق قادة مصر والسعودية وتركيا وإيران، ليثبتوا أنهم على مستوى التحدي، وأنهم قادرون على صياغة مستقبل مختلف للمنطقة، مستقبل يحررها من الهيمنة الخارجية، ويعيد إليها حقها في أن تكون فاعلًا أساسيًا في النظام الدولي الجديد. 

شاركها.