أمد/               حول الرواية/الحدث للمحسن بن هنية :أوراق..تساقطت

 

الإبداع الأدبي في الرواية..تأرجح بين الإمتاع والإيلام (الروائي المحسن بن هنية نموذجا)

 

“الروایة ولیدة الطبقة البرجوازیة و هي البدیل عن الملحمة و لذلك اعتبر هیجل الرواية ملحمة العصر الحدیث..”

 

“قد تهدى هذه الرواية المدهشة بإمضاء الروائي الكبير المحسن بن هنية إلى تلك القلوب اليائسة،وإلى هذي العقول الحائرة التي أنهكتها تجارب الحياة وفشلها،امرأة كانت أو رجل يقول: “فكلنا أنت وهي وأنا مصادر أساسية للفشل،فلا تجعلوا اليأس والإحباط يتسلطان على عقولكم وقلوبكم،واتخذوا من اليأس طريقاً يؤدي بكم إلى الطموح،وأبرز ثمار الطموح وأكثرها خلوداً ومقاومة لنسيان الذاكرة الإبداع..،فلا تيأسوا من شفقة الزمن..ورحمة الله..” قد لا يحيد القول عن جادة الصواب،إذا قلت أنّ الكاتب الألمعي التونسي المحسن بن هنية يمثّل على خريطة الإبداع التونسي أيقونة مهمة لها خصوصيتها،وحالة خاصة من حالات الشأن الإبداعي الذي يجمع داخله ما بين المتخيل والسيرة ووقائع اجترار تاريخ الذات الاجتماعي والأيديولوجي في تجربة إنسانية وإبداعية مستمدة من واقعها الخاص الذي عاشت فعلا ومازال يعايش فيه مراحل تحولات حادة في الزمن العربي المعاكس..

وتمثّل مرآة الذات التي انعكست عليها مسيرة حياته الروائي الألمعي المحسن بن هنية) الحافلة والمفعمة بالإبداع في تجلياته الخلاقة بؤرة كبيرة انعكست بدورها على إبداعه الروائي في المقام الأول وشكّلت عالمه الإبداعي الخاص رغمعصاميتهالتي لم تنل من قدرتها على الخلق والإبداع ،كما تمثّل صورة الآخر في منجزه الإبداعي جانبا مهما استعادتالمحسن بن هنيةفي نسيج أعماله الروائية والنثرية جميعها،وجسّد من خلاله تجربة لها أبعاد متعددة كان لها تأثيرها الخاص على إبداعه القصصي على وجه التحديد،بل وعلى ملامح أخرى من منجز الإبداع العربي المعاصر. وذات المحسن بن هنية في حد ذاتها وهي الباحثة عن نفسها،والمتفتحة على الآخر وعلى العالم من حولها، تريد أن تدرك المعنى وتمتلكه.فكل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم والآخر،كما أن كل علاقة بالآخر هي علاقة بالذات. وهذا (الازدواج) تعبير عن وحدة صميمية مفقودة بين (الأنا) و(الآخر) في عالم تشترك فيه أكثر الدلالات النثرية لدى الروائي المحسن بن هنية برموز متماثلة، وهو شعور يتجاوزهذه الدلالات، والإيحاءات بإستمرار نحو تأكيد خصوصية الوضع البشرى،حيث يكون الإنسان غائبا عن ذاته. تعيشالمبدع المحسن بن هنية نصه الإبداعي كما يجب أن يعاش،و”يسرد” وّيروي” ،وكانت ذاته في خضم هذاالطوفان الإبداعيمرآة للواقع الذي اختاره هو والذي كانت سطوة الآخر بصورها المختلفة دائما ما تشكّل تجاهه عقبة كؤود لواقع ما كان ينشده.فنراه يعيش شتات الذات ويرتطم بالآخر في شتى صوره،ويحاول هذا الآخر في ذات الآن بشتى الطرق أن يسقطها ويكسّر حدة تمرده وعصيانهإن لم أقل مكره الأدبي،ومن ثم تصادمت ذاته مع سطوة القمع عند هذا الآخر المتمثل أولا في السلطة المناوئة لفكره،كما تمثل أيضا في صورة المرأة كما جسّد خطوطها برؤيته وفلسفته الخاصة،وقد انعكس ذلك كله على منجزهالروائي الذى أبدعه عبر مسيرة حياتية لا تزال مفعمةكما أسلفت بعطر الإبداع.

وإذن؟ عالم الكتابة عند “المحسن بن هنية” إذا،هو عالم قائم بذاته،يكاد أن يكون معادلاً للمجتمع الخارجي ترتبط عناصره ارتباطاً سببياً ويستمد كل عنصر قيمته النسبية من علاقته بالأجزاء الأخرى،وتلتقي ممراته الجانبية وأزقته الخلفية بشارعه الرئيسي،فكل وقائعه منتظمة في إطار ثابت يحدد لكل واقعة وزنها الخاص،وقد تتساوى فيه إحدى النزوات الشخصية،فكل الأشياء المحيطة بنا قد اندمجت في شبكة من الدلالات الفكرية والإنفعالات الجاهزة؛ويتحدد شكل النص الإبداعي عند بن هنية بالفعل المتبادل بين الشخصية ووضعها،فنصوصه تتميز من زاوية رئيسية بالطابع الانتقالي،بالصراع بين عدة متناقضات،بذلك التيار المتدفق المتغير دائماً في مواجهة التسلسل الطبقي المتحجر،إن ملحمة الحياة الخاصة عند بن هنية تتنفس بالدلالة العامة.

وليست الحبكة النصيةعند هذا الروائ الفذإلا حركة المقدمات لتجنب نتائج وفقاً لمقاييس مضمرة، فإن ما يحدث في النهاية هو التعقيب الأخلاقي والفكري على سلوك الشخصيات،وهي لا تختلف في ذلك عن سائر كتاب الرواية البلزاكية،فالخاتمة يحددها السياق الموضوعي العام لكل لحظات الفعل المتعاقبة،تدفع أخلاقاً كريمة وتلتزم بقواعد اللعبة وتأخذ نجاحاً أو العكس..وهنا يتجانس الشعر بالرواية في علاقة حميمية من الصعب فصل عراها. ومن هنا أبضا،فإن الحبكة القصصيةكما أسلفت لدى بن هنية تنسج في صبر شبكة من “العلاقات”اللاواقعية خلف الإسهاب في سرد التفصيلات الواقعية،فالعلاقات السببية المحركة للواقع والمحددة للشخصيات تحتوي على تصورات مثالية عن الإنسان ومكانه في العالم،وهي تطبع بطابعها ما يسود تلك المرحلة من بحث عن قيم حقيقية في عالم يبدو زائفاً،بتحقيق الوفاق السعيد بين الإنسانية والأرض والسماء.

على سبيل الخاتمة: قلت سابقا في إحدى مقارباتي:ليس مشكلة في أن تستحيلكاتبا مبدعا،فالمفردات والألفاظ مطروحة علىرصيفاللغة،لكن الأصعب أن تكون ذاك المبدع القارئ،وهذا الدور المزدوج يجعل الكاتبكرها ملتزما أمام قارئيه في أن يقدّم لهم قدرا معرفيا ومعلوماتيا مهما يشارف اكتمال ثقافة الآخر الذي يجد ملاذه المعرفي عند كاتبه،هذا الدور قام به المحسن بن هنية عبر مشروعه القصصي وكذا الروائي،ومن خلال إبداعاتهالمدهشة(وهذا الرأي يخصني) وكبار الكتاب والشعراء من أمثال توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط مرورا بالاستثنائي محمود درويش وجمال الغيطاني وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم.. كانوا يمررون قدرا معرفيا مذهلا عبر سياقاتهم النصية الإبداعية أو السردية مستهدفين خلق حالة من الوعي المعلوماتي لدى القارئ الذي اختلف دوره عن السابق بعد أن استحال شريكا فاعلا في النص،غير هذه الشراكة الباهتة التي أشار إليها رولان بارت بإعلان موت المؤلف/الشاعر.

فالمؤلف أو الشاعر،لم يعد ميتا كما استحال في سبعينيات القرن الماضي،ولم يعد إلى أدراجه القديمة منعزلا عن نصه،بل هو الصوت الآخر الذي يدفع القارئ إلى البحث عن مزيد من التفاصيل واقتناص الإحداثيات السردية أو الشعرية بمعاونة الكاتب نفسه. والمحسن بن هنيةالغارق في تفاصيل الوطن وتراثه الأصيل والمنغمس في ذات الآن في العشق في آبهى صوره، استطاعببراعة واقتدارأن يوفّر هذا الوعي المعلوماتي لدى قارئه،الأمر الذي يدفعنا بأن نجعله في زمرةالكتاب العالميين الحجاجيين،أي الذين يمتزنون بإقامة الحجة عن طريق تدعيم الطرح الفكري بطروحات فكرية وفلسفية ذات شراكة متماثلة بعض الشيء.. يبدو هذا الطرح المعلوماتي في تفاصيل المشهد الإبداعي للكاتببن هنيةوالذي نجح السردبقوالبه أن يفرض سطوته وقوته القمعية في إحداث التأويل والإمتاع،ومن قبلهما الدهشة لدى القارئ من خلال الصورة والتصوير الفني لأحداث تبدو عاطفية محضة،وفيه ايدعم بن هنيةطرحهالفكري بأفكار ومساجلات فكرية تؤدلج الدور الثقافي للمثقف،وأنها ليس بالقطعية تنظيريا أو مكتفية بالمتابعة بدون المشاركة في صنع العالم الإبداعي،وأنها بمثابة أيقونة شرعية للحراك المجتمعي الثقافي.

وهنا أضيف:الروائي التونسي العبقري المحسن بن هنية يؤسسبمهارة عجائبيةلنص إبداعي مختلف،إذ تراهأحياناأشبه بالمسرحيين وهم يدشنون أسسا لفنهم،فهو كذلك في معظم كتاباته (وأزعم أني اطلعت على معظمها رغم غزارتها)،يعتلي مسرحا يكاد يكون أحيانا شعريا يقص التاريخ بعدسات غير متمايزة رغم أنها لا تدخل في قالب المسرح وكنهه،فهو لم تتبع القوالب الفنية الجاهزة لكتابة النص الإبداعي في مختلف تجلياته،بل عمد منذ البداية إلى تأريخ السرد والحكي عبر لغة “شعرية” عذبة تداعب الذائقة الفنية للمتلقي.

وأعتقد أنالمحسن بن هنية منذ خطه لسطور نصوصه الأولى (وما أكثرها)،وضع رهانات جديدة للنص الإبداعي وهي حضور المتلقي بقوة رغم انفصالهأحيانازمنيا عن سؤال الوجع،وأنين الألم.

على سبيل الخاتمة:

سُئل ذات مرة الشاعر محمود درويش، فأجاب بكل تلقائية، “نحن، حتى الآن، نحاول بكل الأشكال الشعرية الجديدة أن نقول سطراً واحداً للمتنبي. كيف؟ كل تجاربي الشعرية من أربع سنوات حتى اليوم (19821986)، كتبت حوالي المائة قصيدة، ثم انتبهت إلى أن المتنبي قال: (على قلق كأن الريح تحتي)”… !!؟

والشاعر،هو من يبني مجدا،ويترك خيرا،ويستظل تحت ظل كل الشعراء من جلجاميش حتى آخر يوم من سنوات عمره،فالموت حقيقة تُعلن نهاية سجال الحياة، والحب حُلم وغاية يلهث وراءه الإنسان،لأنّه بُرهان ودليل على البقاء والخلود،سواء علم بذالك أم لم يعلم،ومهما تطلب منه ذالك من تعب ومن صراع،يؤكد دوريش ذلك بقوله “سنكتب من أجل ألّا نموت،سنكتب من أجل أحلامنا”..والروائي التونسي المحسن بن هنية الذي ولج عتبات العالمية بخطى ثابتة تكتب لغد أفضل تشرق فيه شمس الحب والإنسانية على الجميع..

ختاما:

” يعد التجريب أبرز القضايا التي طبعت العصر المعاصر في جميع الأصعدة بما في ذلك المجال الأدبي،كما تعد تجربة الروائي التونسي المحسن بن هنية من بين التجارب الروائية المعاصرة، أين تناولت الرسالة موضوع التجريب ومظاهره في روايته التونسية الخيرة ” أوراق تساقطت”. هي رواية متوسطة الحجم، إذ لم يتعد عدد صفحاتها المائة وخمسة و ثمانون صفحة (185)، تناولت موضوع ثقافي سياسي حضاري، لا ترسو على ضفاف واحدة أو رؤية محدودة، بحيث هي معيش يطفو و يغوص موازيا للمعيش مرة و مرة أخرى موازيا ، تنتسب شكلا إلى مذهب التجريب الروائي. قسم البحث إلى مقدمة و فصلين، خصص للتجريب في الرواية التونسية، اما الثاني فخصص لظهور التجريب في رواية أوراق تساقطت للروائي المحسن بن هنية، بالإضافة إلى الخاتمة ، كذا قائمة المصادر و المراجع…”

و في نفس السیاق استفاد جورج لوكاتش من هذه الفكرة ،”و اعتبر بدوره الروایة ملحمة برجوازیة ، فالروایة سلیلة الملحمة هو المجتمع فكون موضوع الروایة هو الفرد الباحث عن 1 معرفة نفسه و اثبات ذاته و قدراته من خلال مغامرة صعبة و عسیرة” (منقول عن مذكرة مقدمة ضمن متطلبات نیل شهادة الماستر تخصص:أدب عربي حدیث و معاصر بعنوان: التجريب و مظاهره في رواية أوراق تساقطت لـمحسن بن هنية ..)

ولنا عودة إلى هذه الرواية/الحدث للمحسن بن هنية عبر مقاربة مستفيضة تستدعي مني جهدا جهيدا لما تضمنته من إدهاش تجريبي يعد علامة مضيئة في جمالیات التجریب و مظاهره..

محمد المحسن (شاعر،ناقد،كاتب صحفي وعضو في إتحاد الكتاب التونسيين)

1 صالح مفقودة :أبحاث في الروایة العربیة ن منشورات مخبر أبحاث في اللغة و الأدب الجزائریة ،جامعة محمد خیضر..

 

شاركها.