تجليات الأدب المقاوم..في الأفق الفلسطيني
أمد/ «إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية،فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية». (غسان كنفاني)
فلسطينية العينين والإسم/فلسطينية الأحلام والهم/فلسطينية الميلاد والموت (محمود درويش)
قلما تجد شاعرًا عربيًّا غابت القدس أو القضية الفلسطينية عن أعماله،وقد كانت القضية الفلسطينيةوما زالتمصدرَ إلهامٍ لكثير من الأدباء والشعراء في مختلف الأزمان والعصور.(الكاتب)
وُلِدت المقاومة مع الإنسان،وظلت ملازمة له منذ نشأة الخليقة،لأنه مخلوق مقاوم بطبعه وفطرته لكل ما يحسبه عنصرًا يعمل ضده،إن كان هذا العنصر ينتمي إلى محيطه،وبيئته،أو كان من المجموعات الإنسانية أو الطبيعية الأخرى.
وبما أنّ اللغة كانت ولا تزال تشكّل إحدى أدوات التواصل والمواجهة،فإنّ الانسان استخدمها كعنصر مؤثّر في الدفاع عن النفس.ونجد في التاريخ شواهد عدة لتأثيرها،وقد تحولت فيما بعد إلى أدب وشعر وخطابة وغيرها.لذا من الممكن القول إنّ أدب المقاومة هو التعبير من خلال اللغة التي استحالت نصًّا ومنصةً للدفاع عن الإنسان في معركته مع الآخر المعتدي،مع تعدّد هذا الآخر وتنوّعه وتلوّن صفاته.لذلك لا يخرج الموضوع عن هذا المسار التاريخي التكويني.
إن المقاومة ليست ورقة تذروها الرياح،بقدر ما هي شجرةٌ تضرب جذورها في الأرض عميقًا، ومهما اختلفت أشكال المقاومة إلا أنها بالنهاية تقود إلى هدف واحد،ولذا كان الشكل الثقافي في المقاومة بمثل أهمية المقاومة المسلحة،وهما عاملان مُترافقان يكمل أحدهما الآخر،وشكَّل أدب المقاومة على وجه الخصوص حلقة جديدة في سلسلة التاريخ بتطوُّره السريع الذي واكب متطلبات الوضع،ولكن الذي ميَّز الأدب المقاوم هو ظروفه القاسية بالغة الشراسة التي واجهها وتحداها.
يعدُّ أوَّل من أطلق مصطلح “أدب المقاومة” الأديب الفلسطيني غسان كنفاني*،ويهتم هذا الأدب بالكتابة عن أوضاع فلسطين السياسية تحت الاحتلال،ويعدُّ من أهم الأسلحة الفتاكة للشعب الفلسطيني،لأنه بمنزلة صوت الشعب الحر حيث تحدَّى أدب المقاومة الاحتلال،وأصبح حلقة الوصل مع باقي شعوب العالم.
ولقد أدرك أدباء المقاومة العرب في فلسطين المحتلة منذ البداية خطورة المعركة التي يخوضونها،وقد أدى ذلك إلى تطور أسلوب التعبير وتكيُّفه مع متطلبات الجبهات القتالية،فقد لجأ أغلب الشعراء إلى كتابة القصيدة الشعرية،مستعينين بالطريقة الرمزية حيث عبر الشاعر عما يخالجه بطريقة مستعارة،وأدى وعيهم هذا إلى فهمهم حقيقة التسلل من الداخل لتسهيل عملية الضرب من الخارج،مما أسهم في بلورة أدب المقاومة الذي كان بدوره صمودًا داخليًّا،مما دفع الطريق أمام الأدباء للانطلاق،وأدت تلك التحديات الإسرائيلية اليومية إلى اختصار فترة من طفولة العمل الفني.
وهنا أقول : إن تناثر الكلمات الفلسطينية في الكتب عبر أرفف مكتبات العالم هي ليست حالة شتات الشعب الفلسطيني ذاتها لما بعد النكبة،وفي الواقع تعمل الحالة الأولى للكلمات كأنها قوى مضادة للحالة اللاحقة للشتات من خلال التأكيد على قوة تحمل الفلسطينيين والتعبير عنها.
لقد تواتر الحديث عن الهوية الفلسطينية وضرورة الحفاظ عليها في ظل الاحتلال الإسرائيلي مع تزايد وتيرة أدب المقاومة والتوكيد عليه،علمًا أنه تشكَّل في الفترة ما بين نزوح الفلسطينيين عام 1948 وحرب الأيام الستة عام 1967،ما ميَّز الهوية الفلسطينية بطابع فريد منذ ذاك الحين،واستمر حتى الوقت الحالي.والرائع في أدب المقاومة هو التعبير بحرية دون خوف عن الأهوال والجرائم التي ترتكب في حق الشعب الفلسطيني من قبل المحتل الصهيوني.وكان الكاتب الفلسطيني غسان كنفانيكما أشرناهو من قام بسبك مصطلح «أدب المقاومة» وعرّفه بأنه الأدب الذي يقاوم القمع والاحتلال الإسرائيلي وينادي بالحرية والاستقلال،على الرغم من وقوع البلاد تحت طائلة المحتل.وفي كتابه «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة»يؤكد غسان كنفاني أن أدب المقاومة في فلسطين يمكن اعتباره إلى حد ما ضربا من ضروب المقاومة المسلحة،وهو بمثابة حلقة في سلسلة تاريخ متواصل،لم يستطع أحدهم قطعه طوال نصف قرن من حياة الفلسطينيين،إلا أن نصف القرن هذا في عصر غسان كنفاني قارب في الوقت الحالي القرن من الزمان.
ويعدّ غسان كنفاني (19361972) من أبرز رموز المقاومة في فلسطين،الذي حمل سلاح القلم والكلمة،وكوَّن كتائب من زعماء المقاومة،سواء على الساحة الأدبية أو السياسية،على الرغم من أن حياته لم تكن طويلة،أنهاها المحتل عندما اغتاله في بيروت.ولم يتوان غسان كنفاني في الدفاع عن وطنه المحتل،غير آبه بالسخرية منه ومن أمثاله من الأدباء المتهمين بعدم القدرة على تخليص الوطن من الاحتلال.
وردا على ذلك،كان غسان يردد دوما: «إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية،فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية».وربما كان ذاك سببا في استمرار حركة المقاومة،وما أطلق عليه مصطلح «أدب المقاومة» لم يشمل الأدب الفلسطيني فقط،بل جميع فروع الفنون التي تتناوله،فقد انتهج سبيل نشر قضية بلاده والدفاع عنها في كل مكان،وكأنه يحاول أن يخرجها من ظلمات الاحتلال إلى النور توكيدا لمقولته الشهيرة: «لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة».
نقول هذا،دون أن ننسى دور الحرب النفسية والاقتصادية والسياسية والبدنية التي شنتها قوات الاحتلال على الثقافة العربية والمثقف العربي التي كان لها الأثر الأكبر في بلورة الإنتاج الأدبي المقاوم،فخلال عشرين عامًا (من نكبة 1948إلى حرب الأيام الستة عام 1967)من القمع الثقافي دون فترة انفراج واحدة حتى قطع الأدب الفلسطيني المقاوم رحلته الصعبة ليصل إلى درجة عالية المستوى في الشكل،والمضمون،تتميز برؤية عميقة وواضحة لأبعاد القضية، فقد كان يقاتل على أكثر من جبهة ليفرض نفسه على جميع الجبهات،كما استولد وجهين مترافقين لأدب المقاومة ظلا معًا السمة البارزة والدائمة له وهما وجهه المحلي الصامد،وجهه العربي.
إشراقات الهوية الوطنية في الأفق الفلسطيني:
في الحديث عن الهوية الوطنية تتجسد فلسطين/الفلسطينية،لتكون ليس فقط هوية الميلاد،بل هي أيضاً هوية الانتماء،هوية الكفاح وهوية العطاء..فحينما انشد محمود درويش في بطاقة هوية سجل انا عربي،اعتبرت هذه القصيدة مداً استراتيجياً ورمزياً متميزاً،ومنطلقاً للثقافة الفلسطينية في عمقها الاستراتيجي،تبعها مقولات كثيرة كتبها محمود درويش لتلخص مراحل نضالية امثال أحمد الزعتر،ومديح الظل العالي.ومن خلال الهوية الفلسطينية والعربية يتمنى درويش أن يمنحه الله القدرة والحياة ليسجل المرحلة النضالية الاخيرة فوق ثرى فلسطين،ليكتب النشيد الختامي/الابتدائيالختامي لمرحلة،والابتدائي لمراحلنا القادمة.ففي ديوانه “لماذا تركت الحصان وحيداً” يؤكد على الهوية الوطنية والهوية النضالية.وقد تحقق له ذلك بالعودة إلى الأرض، وتجسيد كلماته في ربوعها،وحلقت روحه الطاهرة فوق روابيها،لتظل كلماته رسالة خلود لوطن خالد.وتظل فكرة الهوية والبحث عنها والإنتصار لها شوق المبدعين.
على سبيل الخاتمة :
قال الشاعر الراحل محمود درويش:”ما أعظم الفكرة وما أصغر الدولة”.والاديب هو حامل الفكرة والمدافع عنها ومبدؤها الاول.وقد اتسعت رؤيا الأدباء الفلسطينيين بفعل انتمائهم،وبلغة الإبداع،لتحمل فيض التعبير عن الوفاء للأرض،وشكلت عباراتها وتعابيرها الخاصة الوجود الحتمي والفني،كما نرى في إبداعات الرعيل الاول،إبراهيم طوقانعبد الرحيم محمود،حنا ابو حنا،هارون هاشم رشيد،يوسف الخطيب وغيرهم .وتجلت صوفية العلاقة التوحدية في معالم الوجود الفلسطيني،حتى غدت إشارتها الترميزية افاقاً لحق التعبير عن الارض
والإنسان،بإبداعات معاني الحالات في رحلة روحية تتلخص فيها تجربة الحلول.
واذا كانت الثورة في جوهرها ايمان بامكانية تحقيق العدل في هذا العالم كما يقول رجاء النقاش،فإن الثورة الفلسطينية عمقت تجربة الابداع بشمولية الفعل التراجيدي،ووحدته،مرتكزة حول الانا في مبدأ الوحدة،ليصبح حضور الكاتب الملتزم معادلا لموقف فني.
واختتم بما قاله الشاعر المصري امل دنقل:
قالت امرأة في المدينة
من يجرؤ الان ان يسرق العلم القرمزي
الذي قام فوق تلال الجماجم
أو يبيع رغيف التراب الذي عجنته الدماء
أو يمد يداللعظام التي تتناثر في الصحراء.
*غسان كنفاني (1936 1972): روائي، وقاص،وصحفي فلسطيني،ويعدُّ أحد أشهر الكُتَّاب والصحفيين في القرن العشرين.اهتم بالكتابة على نحو خاص بمواضيع التحرُّر الفلسطيني،كما كان عضوًا بالمكتب السياسي “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”،ولا يخفى على أحد أنه أوَّل من تحدث عن شعراء المقاومة وأشعارهم ونشر عنهم بالعالم العربي،ولم تخل أي مقالة كتبها من معلومات عن شعراء الأرض المحتلة.
من أبرز مؤلفاته: “عالم ليس لنا”،و”أرض البرتقال الحزين”،و”عائد إلى حيفا”،و”جسر إلى الأبد”،و”رجال في الشمس”،و”ما تبقى لكم” و”القميص المسروق”.