تجربة النضال الفلسطيني.. خصوصة مقاومة تقاوم التعميم
أمد/ النضال الفلسطيني ليس مجرد معركة تحرر وطنية في مواجهة احتلال عسكري، بل هو مقاومة ممتدة تقف أمام مشروع استيطاني استعماري يسعى إلى إلغاء الوجود الفلسطيني ذاته. هذا المشروع لا يهدف فقط إلى السيطرة على الأرض، بل يتجاوز ذلك إلى تفريغها من أهلها وإزالة كافة ملامح الحياة الفلسطينية، ليحل المستوطنون مكانهم في محاولة لإقامة واقع جديد يتجاهل أي امتداد للفلسطينيين في الأرض أو في التاريخ. في هذا السياق، ومع الاعتراف بالدروس القيمة من تجارب التحرر العالمي الأخرى، مثل التجربة الجزائرية أو الفيتنامية، تظل الخصوصية الفلسطينية قائمة، وتجعل من النضال الفلسطيني تجربة فريدة لا يمكن مقارنتها أو تعميمها.
طبيعة المشروع الاستيطاني في فلسطين وخصوصية النضال
تتمثل خصوصية النضال الفلسطيني في أنه يواجه مشروعًا استعماريًا وجوديًا، يتجسد في طرد السكان الأصليين من أرضهم واستبدالهم بمستوطنين، عبر إجراءات تدميرية تتغلغل في مختلف جوانب الحياة الفلسطينية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. بعكس تجارب التحرر من الاستعمار التقليدي، كالتجربة الجزائرية التي واجهت استعمارًا يسعى للسيطرة والاستغلال، فإن المشروع الصهيوني في فلسطين يقوم على فكرة الإحلال والإلغاء. إنه استعمار يسعى لأن يكون الشعب الفلسطيني هو “الغائب” دائمًا، وأن يُمحى من الجغرافيا والتاريخ معًا.
وبينما كانت الحركات التحررية الأخرى تقاتل من أجل استقلال وطني في مواجهة مستعمرين أجانب، تتطلب المواجهة الفلسطينية الدفاع عن الحق في الوجود ذاته. فالاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يسعى لتدمير أي أساس لحياة فلسطينية مستقرة وطبيعية، عبر تدمير القرى، وتفتيت النسيج المجتمعي، وفرض قيود على التنمية والبنية التحتية، ليبقى الفلسطيني في حالة مستمرة من النضال من أجل الصمود.
نقد المقارنات السطحية مع تجارب النضال الأخرى
ثمة مغالطة شائعة في مقاربة النضال الفلسطيني، وهي تبرير التضحيات الفلسطينية عبر مقارنتها بتجارب نضالية أخرى كالتجربة الجزائرية. صحيح أن كلا الشعبين دفع ثمنًا باهظًا في سبيل حريته، إلا أن هناك فرقًا جوهريًا في طبيعة التضحيات التي يقدمها الفلسطينيون. في التجربة الجزائرية، كانت التضحيات جزءًا من نضال لطرد مستعمر يسعى لاستغلال موارد الأرض دون استئصال الشعب الجزائري نفسه، بينما التضحيات الفلسطينية هي جزء من نضال طويل الأمد ضد مشروع يستهدف اقتلاع الشعب الفلسطيني وإحلال مستوطنين مكانه.
إن محاولة مقارنة التضحيات في فلسطين بالتجربة الجزائرية أو غيرها تتجاهل الفارق الأساسي في طبيعة الصراع وتحدياته. فالنضال الفلسطيني ليس فقط لأجل الحرية، بل من أجل البقاء والحفاظ على الوجود المادي والهوية الوطنية. هذه التضحيات ليست مجرد استجابة لدافع التحرر، بل تأتي كردّ على مشروع استيطاني استئصالي يهدد الإنسان الفلسطيني على جميع الأصعدة.
استحضار تجارب المقاومة مع الحفاظ على الخصوصية الفلسطينية
مر النضال الفلسطيني عبر عدة مراحل أظهرت مرونة وتنوعًا في أساليبه. بدأ العمل المقاوم في الخارج، حيث حققت المقاومة الفلسطينية أول انتصار لها في معركة الكرامة عام 1968، ثم انتقلت إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود، وتطورت قدراتها العسكرية والتنظيمية رغم الصعوبات والتحديات. كانت تجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان معركة في الصمود رغم الاجتياحات، ونجحت في بناء قدرات على المستوى الشعبي، والمؤسساتي، والعسكري. لاحقًا، جاءت الانتفاضة الأولى عام 1987، التي نقلت المقاومة إلى الداخل وأثبتت للعالم أن الشعب الفلسطيني قادر على النضال من قلب الأرض المحتلة، مؤكدًا تمسكه بحقوقه التاريخية والإنسانية.
وفي ظل المتغيرات الدولية، استطاعت منظمة التحرير الفلسطينية، بفضل دبلوماسيتها وبُعد نظرها، أن تحافظ على القضية الفلسطينية في مقدمة القضايا العالمية، وأن تحصد الاعتراف الدولي ككيان يمثل الشعب الفلسطيني. وقد عززت خطوات مثل إعلان الاستقلال عام 1988 من رمزية الهوية الوطنية ورسخت الحق الفلسطيني، مع بناء شبكة من المؤسسات التي حافظت على الهوية الوطنية، وربطت الأجيال الجديدة بأرضهم، وأكدت أن الصراع ليس مؤقتًا بل هو دفاع عن الوجود.
انتقاد التبريرات المستمدة من التجارب الأخرى لبعض أفعال المقاومة
إن تبرير أفعال بعض فصائل المقاومة الفلسطينية التي قد تلحق الضرر بالشعب الفلسطيني تحت دعوى “مشروعية النضال” أو استنساخ تجارب تحررية أخرى، مثل التجربة الفيتنامية، يفتقر إلى فهم طبيعة الصراع. فالنضال الفلسطيني ليس نسخةً عن النضال الفيتنامي أو الجزائري، ولا يمكن له أن يكون كذلك، لأن لكل تجربة نضالية سياقها الفريد وظروفها الخاصة. كانت التجربة الفيتنامية مثلاً تقوم على استنزاف العدو من خلال التضحية المتواصلة، بينما يُعدّ النضال الفلسطيني معركة من أجل الحفاظ على الهوية والبقاء في مواجهة مشروع يسعى لمحو الشعب الفلسطيني ذاته.
إن المقارنة التي تضع بعض أعمال المقاومة الفلسطينية في سياق تجارب شعوب أخرى قد تسيء فهم طبيعة الصراع الفريدة. فالنضال الفلسطيني هو نضالٌ ضد محاولات مستمرة لإبادة الهوية واستلاب الأرض، مما يتطلب استراتيجية تستند إلى تعزيز الصمود والحفاظ على الهوية الوطنية، مع تجنب الأعمال التي قد تضر بالبنية المجتمعية أو تجعل الشعب الفلسطيني رهينة للصراعات التي تخدم أجندات خارجية.
استراتيجية فلسطينية مستقلة: بناء نموذج نضالي مميز
ختامًا، يحتاج النضال الفلسطيني إلى استراتيجية مقاومة تراعي عمق التجربة الفلسطينية وتفهم خصوصية الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. فالمقاومة ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي تعزيز للصمود وحماية للهوية وتأكيد على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم على أرضهم. وتستدعي هذه الاستراتيجية أن تبني نموذجًا فلسطينيًا فريدًا، يأخذ من تجارب النضال الأخرى دروسًا لكنه يبقى مستقلاً، ويجدد في أساليبه بحيث تظل فلسطين حاضرةً في الوعي العالمي كقضية إنسانية وقضية تحرر وطني.
بهذا المعنى، يقدم النضال الفلسطيني نموذجًا نضاليًا متفردًا، يعبّر عن حق الشعب الفلسطيني في الحياة والكرامة على أرضه، ويمثل نموذجًا للكرامة والعدالة، بعيدًا عن محاولات التقليد أو إسقاط تجارب أخرى على واقع يختلف عنها في جوهره وخصوصيته.