أمد/ في الأشهر الأخيرة، وجد تجار البلدة القديمة في القدس أنفسهم أمام واقع اقتصادي قاسٍ، بعدما تضررت سبل عيشهم بفعل القيود المشددة والانخفاض الحاد في أعداد الزوار والسياح.

وامتد هذا التراجع لفترة طويلة، ولم يكن مجرد أزمة عابرة بل مس جوهر النشاط التجاري الذي ظل لعقود ركيزة أساسية للاقتصاد المحلي وسندًا للأسر المقدسية.

ويبدو أن الأسابيع القليلة الماضية حملت ملامح مختلفة، فثمة إشارات تدعو للتفاؤل ظهرت في الحركة التجارية، ربما نتيجة تخفيف بعض الإجراءات وبدء عودة الزوار تدريجيًا، فيما يرى التجار الذين عانوا طويلاً في هذه البوادر فرصة لإعادة ترتيب أوراقهم وإنعاش محالهم التي أصابها الركود.

ولا شك أن هذا التحسن النسبي لا يمكن فصله عن الجهود الميدانية المبذولة من قبل مختلف الجهات العاملة في المدينة وعلى رأسها موظفو الأوقاف، الذين يسعون للحفاظ على الحياة الطبيعية في الأحياء القديمة، وبالأحرى يمكن القول إن هذه الجهود أعادت شيئًا من النبض لشوارع القدس التاريخية وأعطت التجار دفعة معنوية هم في أمسّ الحاجة إليها.

لكن ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، لا يزال الطريق طويلاً أمام التعافي الكامل. فالسياحة التي تمثل شريانًا حيويًا للأسواق المقدسية، لم تستعد بعد زخمها السابق، والقيود القائمة على التنقل والوصول ما زالت تحدّ من قدرة الزوار على الوصول بحرية، كما أن استمرار هذه التحديات سيضع مستقبل النشاط التجاري أمام اختبار حقيقي.

ربما تكمن أهمية هذه المرحلة في أنها لحظة تقييم بالنسبة للتجار، إذ بات عليهم الموازنة بين الحفاظ على التراث التجاري الذي توارثوه عبر الأجيال، وبين التكيف مع ظروف سوق متقلبة وغير مضمونة، فبعضهم لجأ إلى تنويع مصادر الدخل أو تطوير منتجاته لتلبية احتياجات زبائن محليين بدل الاعتماد المفرط على السياح.

ويبدو أن حالة التفاؤل الحذر التي تسيطر على الأجواء مدفوعة أيضا بإحساس متنامٍ بالمسؤولية المشتركة بين المجتمع المقدسي، حيث يزداد وعي التجار بأهمية التضامن والتعاون لمواجهة أي انتكاسات محتملة، ولا يقتصر هذا التعاون على الجوانب الاقتصادية فحسب بل يمتد ليشمل دعم البنية الاجتماعية والثقافية للمدينة.

وعلى الجانب الآخر، فإن استمرار التعاون بين مختلف الأطراف المعنية في القدس الشرقية سيكون عاملاً حاسمًا في تثبيت هذا التحسن، فالتجار يدركون أن غياب التنسيق بين الهيئات المحلية والبلدية والأوقاف، قد يعيد الأمور إلى الوراء بسرعة، وهو ما يسعون لتفاديه بأي ثمن.

ولعل ما يزيد من حساسية الوضع هو أن الأسواق في البلدة القديمة ليست مجرد مساحات بيع وشراء، بل هي واجهة ثقافية وسياحية تعكس هوية القدس وتاريخها، لذلك فإن الحفاظ على نشاطها وازدهارها يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحفاظ على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة.

وواقعياً، فإن أي انتعاش اقتصادي لن يكون مستداماً إذا لم يترافق مع بيئة مستقرة وآمنة، وهو ما يطالب به التجار بشكل متكرر، فالأمن والهدوء في نظرهم شرط أساسي لجذب السياح والمستثمرين على حد سواء، وأي اضطراب سياسي أو أمني سرعان ما ينعكس على حركة الأسواق.

ويبدو أن دروس الأشهر الماضية علمت التجار أهمية التخطيط طويل الأمد وعدم الركون لفترات الرواج وحدها، فهم باتوا أكثر استعدادًا لتبني أساليب تسويق مبتكرة، وربما دخول التجارة الإلكترونية للوصول إلى زبائن خارج حدود المدينة كخطوة لتعويض أي فجوات محتملة في الحركة السياحية.

كما يمكن القول إن هذه المرحلة هي اختبار لقدرة الاقتصاد المحلي في القدس على الصمود أمام الضغوط، فالتجار برغم الصعوبات يواصلون العمل للحفاظ على إرثهم، وإثبات أن الأسواق المقدسية قادرة على النهوض مجددًا إذا توفرت الظروف المناسبة.

ويبقى السؤال مفتوحًا: هل ستترسخ هذه المؤشرات الإيجابية وتتحول إلى تعافٍ حقيقي، أم أن الرياح قد تحمل معها جولة جديدة من الركود؟

شاركها.