تأثيرات طوفان الأقصى في عامه الأول 1/3
أمد/ لم يمضي وقتٌ طويل على ملحمة طوفان الأقصى المباركة في 7 أكتوبر تشرين الأول الماضي التي أذهلت الصديق قبل العدو، حتى تباينت واختلفت المواقف حولها، بين من هو مؤيد وبحماسة كبيرة، وبين من على صوته بأن المعركة قد ألحقت الضرر بالشعب الفلسطيني وجلبت له الويلات. ولكل منهما مبرراته وخلفياته التي تتخندق بها حول مواقفه.
من وقف مؤيداً ومرحباً ليسوا بالقليل وامتددهم واسع وواسع جداً أقلهم الشعب الفلسطيني بمجمله الكاسح وفي كل أماكن انتشارهم داخل الوطن المحتل وخارجه شتاتاً ومغترباً. وهم انطلقوا بموقفهم أنّه وبعد ما يزيد عن عقود ثلاثة من عمر أوسلو لن نحصل على شيء، بل على العكس الكيان الصهيوني استباح كل شيء في عناويننا الوطنية، ولم يبقي إلاّ على سلطة لا حول ولا قوة إلاّ مزيد من الرهانات البائسة على مسار سياسي من مفاوضات عقيمة في مجملها كانت لتغطية العدو في استباحة ما تبقى من حقوق وطنية وفي مقدمتهم عنوانين هامين، الأول القدس والمسجد الأقصى وتهويدهما. والثاني الأسرى في سجون الاحتلال وما يعانونه من ممارسات تعسفية إجرامية تمارسها إدارة السجون على خلفية سجن جلبوع وفرار أربعة أسرى منه. بالإضافة إلى الحصار الجائر على قطاع غزة وممارسات الكيان الإجرامية في الضفة والاقتحامات اليومية لمدنها ومخيماتها. وعلى سلطة لا يرى الكيان فيها إلاّ أداة أمنية لقمع نشطاء أبناء شعبنا وملاحقتهم وزجهم في السجون، وبالتالي مسار تطبيع إبراهيمي كانت تقف السعودية على مسافة قصيرة جداً لتنخرط في دهاليزه مع كيان العدو الصهيوني ومتطلباته التي يُراد منها أن تكون حبل المشنقة التي يلتف حول عنق القضية الفلسطينية لتصفيتها بشكل نهائي. ناهينا عن مجازر إجرامية نازية وعنصرية يرتكبها هذا الكيان الغاصب منذ 76 عاماً بحق الشعب الفلسطيني في مجازر موصوفة ارتكبها عن سابق تصور وتصميم أمام سمع وبصر مجتمع دولي هو شريك بصمته وعجزه عن إنصاف شعبنا وقضيته العادلة وضوح الشمس على وجه الخليقة.
أما المُشككين والمُتهمين فقد انطلقوا من نظرة ضيقة مشفوعة بلمسة إنسانية خداعة وكلام حقٍ يُراد منه الباطل، أنه كفى شعبنا تنكيلاً وتشريداً به، وآن له أن يرتاح بعد معاناة طويلة من دفع الأثمان الباهظة من دماء أبنائه ورجاله ونسائه وأطفاله ومقدراته وممتلكاته. وبأن هناك يوم قادم لا محالة سيستفيق الضمير العالمي، ويصحو المجتمع الدولي لكي ينصفنا ويوصلنا إلى حقوقنا وأقلها دولة في سياق حل الدولتين الوهم والأكذوبة، والذي لا أحد من خارج الدوائر الأمريكية والصهيونية يعلم ماهية هذا الحل، هل على أرض فلسطين كدولتين متجاورتين؟، أم أنّ المقصود دولة يهودية على كامل أرض فلسطين المحتلة أي في غرب نهر الأردن، والثانية هناك على ضفته الشرقية على حساب الأردن، كحل بديل موجود على طاولة حكومات كيان الاحتلال الصهيوني بأحزابه وساسته ونخبه وكبار حاخاماته.
وحتى لا نستفيض نترك للتاريخ وحده الحكم فيما جرى في 7 أكتوبر تشرين أول الماضي في ملحمة طوفان الأقصى. وإلى حينه أي حكم التاريخ، ما الذي تحقق في طوفان الأقصى على مدار عام كامل، بعيداً عن النظرة الضيقة والقراءة السطحية. بل بأبعاد ما أنتجته تلك الملحمة باعتبارها حدثاً له ما بعده من تأثيرات وملامح ودلالات على غير صعيد بأبعادها الاستراتيجية.
في التأثيرات الاستراتيجية لمعركة طوفان الأقصى، وبغض النظر عن النتائج النهائية التي ستؤول إليها المعركة وبعد مرور عام، إلاّ أن تأثيراتها الاستراتيجية ستمتد لسنوات قادمة على أقل تقدير، وعلى أكثر من صعيد، الفلسطيني والإقليمي والكيان الصهيوني وصولاً إلى الدولي. على الصعيد الفلسطيني:
1. أعادت للقضية الفلسطينية حضورها وانتشارها لتتحول قضية عالمية بعد أن كان الكثيرون في العالم يجهلونها ولا يعيرونها أي اهتمام. حيث لم يعد خافياً ما بُذلت من جهود عمل عليها ولا زال الكيان الصهيوني وبالشراكة مع الإدارة الأمريكية بهدف تهميش القضية الفلسطينية وصولاً إلى تصفيتها بموجب صفقة القرن التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، واتفاقات التطبيع الإبراهيمي. ولعلّ ذروة تلك الجهود المحمومة تجلت مع وصول بنيامين نتنياهو وائتلافه الفاشي وتسلم الحكومة في الكيان، وما التزمته من برنامج أقل ما يُقال فيه أنه فُصِّل من أجل تصفية ما تبقى من عناوين وطنية لقضيتنا الفلسطينية. في القدس من خلال تصاعد عمليات الاقتحامات والتهويد، والتحول من التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى إلى وضع اليد كاملة عليه، وما دعوة الفاشي بن غفير لإقامة كنيس يهودي إلاّ إحدى تعابير تلك التوجهات. وبالتالي مصادرة الأراضي والتسريع في عمليات الاستيطان، ونقل السلطات على الضفة من السلطة العسكرية إلى السلطة المدنية في الضفة الغربية تمهيداً لحسم الصراع حولها من خلفية توراتية أنها “يهودا والسامرة” والدفع حثيثاً في اتجاه تهجير وطرد الفلسطينيين في الضفة نحو الوطن البديل في شرق النهر أي الأردن. ناهينا عن شطب وتصفية قضية اللاجئين.
2. هذه المعركة أكدت على قدرة الشعب الفلسطيني عبر مقاومته على اجتراح أدوات نضالية وكفاحية تعزز صموده وتؤكد عصيانه على انكسار ارادته رغم كل المصاعب والمعاناة والحصار وحرب الإبادة المتواصلة منذ عام. والشواهد أكثر من أن تحصى، في ثوراته قبل العام 1948، وفي العام 1965 انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبعد مجازر أيلول 1970 وتوالي العمليات الاستشهادية. وفي تفجر الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) عام 1987، وانتفاضة الأقصى عام 2000 بعد مرور سبع سنوات على اتفاقات أوسلو المشؤومة عام 1993. وتوسع أعمال المقاومة في قطاع غزة الأمر الذي فرضّ على شارون مغادرته وقوات احتلاله عام 2005، وبالتالي تمكن المقاومة بكل كتائبها المسلحة مواجهة العدوان المتكرر لجيش الاحتلال على قطاع غزة أعوام 2008 2009 و2012 و2014 و2019 و2020 و2021 و2022 و2023.
3. أتاحت فرصة تاريخية لدى المقاومة في إجبار كيان الاحتلال الصهيوني في الذهاب إلى تحقيق صفقة لتبادل الأسرى بعد تمكن المقاومة من أسر العشرات من جنوده وضباطه. وستجد حكومة نتنياهو نفسها مرغمة على الانصياع ولو أجلاً وتحت ضغط عدم قدرته على تحريرهم حتى الآن أولاً، ومطالبات ذوي هؤلاء الأسرى ومؤيديهم بضرورة إتمام صفقة التبادل ثانياً. على الرغم مما يبديه نتنياهو من تعنت، وما تقوم به قوات الاحتلال بهدف قتل هؤلاء الأسرى عبر عمليات القصف الجنوني التي يتعرض قطاع غزة منذ عام.
4. أكدت على قدرة المقاومة في قطاع غزة في اتخاذ قرار استراتيجي تمثل في رفع سقف المواجهة من خلال كسرها لقواعد الاشتباك الغير مسبوق مع الكيان الصهيوني، مما اعتبر تحولاً استراتيجياً في سياق الصراع منذ أن نشأ الكيان الغاصب على أرض فلسطين. وذلك أولاً لجهة اختيار توقيت المعركة. وثانياً، التوغل البري لكتائب المقاومة في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة. وثالثاً، الدفع بأعداد كبيرة من المقاتلين وزجهم في المعركة، واعتماد تكتيكات وأساليب وأسلحة تراوحت بين وحدات قتالية برية وبحرية وجوية خلال اقتحام مناطق غلاف غزة. ورابعاً، النجاح في خداع العدو الصهيوني في المستويين التكتيكي والاستراتيجي. وخامساً، أثبتت المعركة أنّ المقاومة قد طورت من أدائها الاستخباراتي من خلال جمعها المعلومات الدقيقة عن مواقع العدو الصهيوني في غلاف غزة وقدراتها الفائقة من حيث ما احتوته غرفة الغلاف من تكنولوجيا متطورة واستحكامات عسكرية وأجهزة الاستشعار عن بعد، على أنها القلعة الحصينة التي لا تُخترق، والقوة التي يهابها الجميع ولا يتجرَّأ عليها أحد. سادساً، تمكن المقاومة من وضع استراتيجية عسكرية لأسر أكبر عدد من جنود العدو وهذا ما تحقق.
5. كسَّرت هيبة العدو وهشَّمت صورته الأسطورية لدى الرأي العام العالمي في يوم 7 أكتوبر تشرين الأول 2023. وفضحت حقيقته ككيان عنصري فاشي نازي، قام على الحديد والنار والمجازر منذ اغتصابه أرض فلسطين قبل 76 عاماً. فانفجر جنونه بوحشية متوقَّعة وغير مستغربة، إذْ أنّ تاريخه شاهد عليه بأسوأ الفظائع، بسببٍ ومن غير سبب. لذلك فهو على مدار عام كامل أمعن ولا زال يُمعن عن سابق تصور وتصميم في تنفيذ حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وتنفيذ التدمير الممنهج على أرض قطاع غزة.
6. أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية فارضة نفسها على المشهد السياسي والقانوني الدوليين، حيث شكلت معركة طوفان الأقصى فرصة جديدة وثمينة لشرح مظلوميتها وعدالتها أمام الرأي العام العالمي بما حقق انتشاراً واسعاً للرواية الفلسطينية على حساب الرواية الصهيونية المزيفة والكاذبة. فقد أبدت الشعوب في الكثير من الدول بما فيها تلك الداعمة والمساندة للكيان الصهيوني تضامناً وتأييداً غير مسبوق لها ولمقاومة أبناء شعبها. وقد اتضح ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي وفي التظاهرات التي خرجت في العديد من المدن والجامعات حول العالم. فقط شهدت المحاكم الدولية حراكاً غير مسبوق بهدف مقاضاة الكيان على ما ارتكبه ويرتكبه من حرب الإبادة الجماعية الموصوفة بعد الدعوة التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا ضد كيان الاحتلال وقادته. وكذلك محكمة العدل الدولية التي صدر عنها رأي استشاري هام للغاية، يُطالب كيان العدو بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، مع مطالبته بتفكيك المستوطنات وإخلاء المستوطنين، وإعادة المهجرين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجروا منها العام 1967 والتعويض عليهم عن سنوات الاحتلال. والجمعية العامة للأمم المتحدة بالاستناد لرأي محكمة العدل، أصدرت قراراً دعت فيه الاحتلال الصهيوني للانسحاب من الأراضي المحتلة خلال عام واحد. ورغم أنّ القرار أو الرأي ليس ملزماً ولا يرضينا كفلسطينيين، غير أنه في سياق القانون الدولي هام بالنسبة للقضية الفلسطينية. ومن التطورات الهامة أصبحت الدول التي تعترف بدولة فلسطين 149 دولة من مجموع 193 دولة.
7. كشفت المعركة أنّ بنك الأهداف لدى العدو، لا يعدو كونه بنك مجازر ومحارق وتدمير ممنهج ومتعمد حتى يصبح قطاع غزة بمناطقه ومخيماته غير صالح للحياة. فبعد الهزيمة المدوّية والبحث عن الردع المتآكل وتحقيق غريزة القتل والانتقام خرج العدو فقصفت الأبراج السكنية والمساجد والبيوت على رؤوس قاطنيها ولم يعطل مرابض الصواريخ والهواوين ولم يمنع الرشقات الصاروخية والعمليات البطولية اليومية على مساحة القطاع وتحديداً في شماله حيث يسعى العدو للسيطرة الكاملة وإعلانه منطقة عسكرية مغلقة حسب الخطة التي وضعها جنرالات صهاينة وسلموها للنازي المجرم نتنياهو الذي أعرب عن تأييده لها وأكد على ضرورة تطبيقها، وهو ما يعمل عليه الآن.
8. أفقدت معركة طوفان الأقصى العدو ما كان يخيفه خلال معاركه السابقة، ولم يعد بمقدوره أن يقول لا قتلى، ففي معركة الطوفان القتلى والأسرى هم من الجنود وكبار الضباط. حيث الفيديوهات التي تبثها المقاومة لقتلى العدو ودباباته ومدرعاته وجرافاته المُدمرة، قد شكّل جزءاً هاماً من معركة الصورة والبث المباشر الذي نجحت المقاومة في اعتمادها في المواجهات الدائرة منذ عام مع قوات الاحتلال الصهيوني.