أمد/ في لقاءٍ تلفزيوني على فضائية الغد العربي، وُجّه إلى القيادي في حركة حماس موسى أبو مرزوق سؤال بدا بسيطًا في ظاهره، لكنه حمل وجع الشارع الغزي كله:

هل كان «طوفان الأقصى» فعلًا من أجل تحرير فلسطين؟

فجاء الجواب أقرب إلى الصدمة:

“هل يوجد عاقل يعتقد أنه بـ1500 مقاتل سنحرر فلسطين؟”

ثم تابع مستنكرًا، مطالبًا المذيع أن يعيد صياغة أسئلته لتكون “منطقية”، رافضًا القول إن هذه التساؤلات تعبّر عن رأي الناس، ومصرًّا على أنها “أسئلة المذيع وحده”.

بهذا الجواب، كشف أبو مرزوق دون أن يشعر عن حقيقتين فادحتين:

أولاهما أن ما سُمّي بـ«الطوفان» لم يكن مشروعًا للتحرير، بل اندفاعة عاطفية بلا رؤية ولا حساب، مغلّفة بخطابٍ تعبويّ ضبابيّ.

فالقيادي نفسه يعترف بأنّ الحديث عن تحرير فلسطين بعدّة مئات من المقاتلين ضربٌ من الجنون، ومع ذلك زُجّ بالقطاع في أتون حربٍ لم تترك حجرًا على حجر، باسم هذا “الجنون المقدّس”.

اعترافٌ كهذا لا يُسقط الشعارات فحسب، بل ينسف الأساس الأخلاقي والسياسي لمن أطلقوا تلك المغامرة دون بوصلة أو تقديرٍ للثمن.

وثانيتهما أنّ نفيه أن تكون هذه الأسئلة صدى لصوت الشارع، يكشف انفصالًا مرعبًا بين قيادة الحركة والناس الذين يكتوون بنار قراراتها.

فإما أنّ هذه القيادة تعيش في عزلةٍ ذهنية تُغذّيها تقارير ومعلومات مزيفة تبرر لها أخطاءها،

وإما أنها فقدت الحسّ الشعبي تمامًا، فلم تعد تسمع سوى صداها الداخلي.

وفي الحالتين، نحن أمام مأساة سياسية تُضاعف جراح الحرب وتؤكد أنّ من يتحدث باسم غزة لا يعرف غزة.

ولعلّ ما زاد المشهد وضوحًا أن موسى نفسه قال في مقابلاتٍ أخرى: “لم نكن نتوقع هذا الرد الإسرائيلي العنيف والمدمّر.”

فأي منطقٍ هذا؟

وماذا كنت تتوقع يا موسى؟

أن العالم سيركع لك لمجرد خطف بعض الأسرى؟

ألم يكن من البداهة دراسة عقيدة عدوّك القتالية قبل خوض معركة بهذا الحجم؟

فعقيدة الإسرائيليين في هذا الملف واضحة منذ عقود، إذ قالَت رئيسةُ وزرائهم السابقة غولدا مائير يومًا — عقب حادثة أسر أكثر من مئة جندي وضابط إسرائيلي عام 1978 في عملية دلال المغربي البطولية — إنهم “يُضحّون بالرهائن ولا يخضعون لمن يسمّونهم إرهابيين”.

فكيف تخوض حربًا على أساسٍ لم تدرسه، وتبني قرارك على افتراضٍ واهٍ لا يستقيم مع طبيعة عدوك ولا مع طبائع الأشياء؟

إنّ ما قاله أبو مرزوق لم يكن زلّة لسانٍ عابرة، بل انكشافٌ فاضح لطبيعة التفكير الذي حكم قرارات الحرب.

فهو تصريح يختصر المسافة بين الغفلة والمأساة، ويُظهر إلى أي مدى غابت القراءة السياسية عن صناع القرار الذين رهنوا دماء الناس بمغامرة لم تُبنَ على علم ولا على عقل.

لقد دفعت غزة — بكل شرفائها ومدنييها وبيوتها — ثمن هذا الغياب المريع للرؤية.

دفعت الثمن في الأرواح والمصائر، ثم في وعيٍ مشوشٍ يُراد له أن يُصدّق أن الخراب “نصر”، وأن الكارثة “فتح”.

لكن الوعي لا يُخدع إلى الأبد، والحقائق لا تموت بالتبرير.

إنّ أخطر ما في الأمر ليس الاعتراف، بل ما يليه:

أن تبقى القيادة في موقعها، تتحدث بلغة الإنكار ذاتها، وكأنّ شيئًا لم يكن.

أن تواصل العيش في أوهام “المقاومة المنتصرة” بينما المدن رماد، والناس تبحث عن جدارٍ يأويها.

غزة اليوم لا تحتاج لمن يجمّل خطأه، بل لمن يملك شجاعة الاعتراف به.

تحتاج إلى قيادةٍ تعي أنّ البطولة ليست في إطلاق النار، بل في القدرة على تحمّل المسؤولية، وفي أن تكون على قدر دماء من ماتوا.

أما أولئك الذين يصرّون على دفن الحقائق تحت الرماد، فليسوا قادة مقاومة، بل شهود زورٍ على خراب وطنٍ بأكمله.

شاركها.