أمد/ كان موقفاً مؤثراً عندما صلينا الجنازة على الدكتورة بيان عجاج نويهض، رحمها الله، ووقفنا نودعها بينما كان جثمانها يوارى الثرى يوم الأحد 13 تموز/ يوليو 2025 (بعد وفاتها بيوم واحد) في مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية قرب مخيم شاتيلا؛ حيث يرقد هناك زوجها الراحل شفيق الحوت؛ كما يرقد زعيم فلسطين السابق الحاج أمين الحسيني، والشهيدان محمد يوسف النجار وكمال عدوان من أبرز قيادات حركة فتح؛ كما لفت نظري أن قبرها يبعد أمتاراً قليلة عن قبر الشهيد الشيخ صالح العاروري نائب رئيس حركة حماس، رحمهم الله جميعاً.
الدكتورة بيان نويهض قامة كبيرة من القامات العلمية الفلسطينية، ومناضلة وصحفية، ومُتشرِّبة وداعمة لخط المقاومة طوال حياتها وحتى وفاتها. وقد استفدتُ كثيراً من دراساتها التاريخية ومن أعمالها الوثائقية في مرحلتي الماجستير والدكتوراة؛ فهي تُعدُّ من أفضل من كتب بشكل علمي وموضوعي في تاريخ فلسطين الحديث خصوصاً فترة الاحتلال البريطاني 19181948 . التقيتها أوّل مرّة قبل نحو ربع قرن في مؤسسة الدراسات الفلسطينية؛ ثم توطدت علاقتنا مع تفرغي للعمل في مركز الزيتونة للدراسات في بيروت منذ سنة 2004 ، حيث أصبحت منذ تأسيسه عضوة في الهيئة الاستشارية للمركز، وداعماً قوياً له، وشاركت في العديد من فعالياته.
كتاب الدكتورة بيان “القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 19171948 ” الذي نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية سنة 1979 ، في أكثر من 800 صفحة (وهو أيضاً أطروحتها للدكتوراة)، هو من أفضل المراجع الفلسطينية لفترة الاحتلال البريطاني لفلسطين. وقد لفت نظري إنصافها وموضوعيتها لكل التيارات والأحزاب الفلسطينية، ولم تمنعها خلفياتها الفكرية والأيديولوجية من الدقة والأمانة العلمية، بما في ذلك ما كتبته عن القوميين واليساريين والإخوان المسلمين … في فلسطين في تلك الفترة.
وقدمت د. بيان خدمة كبيرة لتاريخ فلسطين الحديث بتحقيقها وإعدادها للنشر مجلد “وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 19181939 ، من أوراق أكرم زعيتر”، الذي صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية سنة 1979 . وهو من أغنى كتب الوثائق عن تلك الفترة؛ وعلى سبيل المثال فقد استفدتُ منه كثيراً في دراسة الوثائق الفلسطينية خلال الثورة الفلسطينية الكبرى 19361939 ؛ وبرز واضحاً وبشكل قوي دور جماعة القسام خصوصاً في شمال فلسطين ووسطها، وتلك الروح الجهادية الإسلامية، والنفس الوطني العربي الأصيل، الذي طبع البيانات الصادرة عن قادة الثوار، مما شكل مادة مهمة لكتابي الماجستير حول “التيار الإسلامي في فلسطين وأثره في حركة الجهاد 19171948 “، وهذا مما يحسب للمرحومين أكرم زعيتر وبيان الحوت.
أما كتابها المهم الذي وثَّق “مجزرة صبرا وشاتيلا: أيلول 1982 ” الذي صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2003 ، والذي أهدتني نسخة منه، فهو من أبرز الكتب المرجعية التي توثق للمجزرة ولأسماء شهدائها، وبذلت فيه جهداً استثنائياً أبطل الرواية الصهيونية، وكشف زيف ادّعاءات لجنة التحقيق الإسرائيلية (لجنة كاهان).
وبالتأكيد، فلديها إسهامات أخرى عديدة لا مجال لذكرها، ولم أجد في دراسات تاريخ فلسطين الحديث مَنْ يُضاهيها من الباحثات الفلسطينيات إلا د. خيرية قاسمية رحمها الله.
***
د. بيان المولودة في القدس سنة 1937 عاشت في بيئة علمية مناضلة. فوالدها عجاج نويهض الذي جاء من رأس المتن في جبل لبنان، هو من رجالات الحركة الوطنية الفلسطينية، وعمل سكرتيراً عاماً للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين الذي كان يرأسه الحاج أمين الحسيني ، ثم مفتشاً عاماً للمحاكم الشرعية ، وشارك في تأسيس حزب الاستقلال سنة 1932 ، وكان ذا توجه قومي، وهو مؤرخ وأديب، وكتابه “رجال من فلسطين” من الكتب المرجعية عن مرحلة الاحتلال البريطاني لفلسطين، وقد عمل بعد حرب 1948 مديراً للإذاعة الأردنية واستقر في رام الله ثم عمَّان حتى 1959 ، ثم عاد للبنان ليستقر فيها، ويتوفى في 25 حزيران/ يونيو 1982 .
ووالدة د. بيان هي الشاعرة الأديبة جمال سليم، وخالها المجاهد فؤاد سليم، وابنة خالتها الشاعرة الأديبة سلمى الخضر الجيوسي.
أما زوج د. بيان فهو المناضل الفلسطيني (اللبناني) شفيق الحوت الذي وُلد في يافا سنة 1932 واستقر بعد النكبة في لبنان، وتزوجها في 1962 ، وأنجبت منه ابنتيها حنين وسيرين وابنها هادر، وظلّ شفيق ممثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان منذ إنشائها 1964 ولأكثر من ربع قرن، كما أصبح عضواً في اللجنة التنفيذية التي تقود المنظمة مرتين: الأولي 19681966 ، والثانية 19931991 حيث استقال منها بسبب اتفاقات أوسلو. وهو مناضل أسس جبهة تحرير فلسطين طريق العودة في سنة 1963 مع عدد من رفاقه، كما أنه كاتب وأديب ومفكر معروف. وقد سعدتُ بالتعرف إليه بعد إنشاء مركز الزيتونة، حيث كان مشاركاً وداعماً لأنشطته حتى وفاته رحمه الله في 2 آب/ أغسطس 2009 . ولا أنسى قوله للدكتور حسين أبو النمل إن مركز الزيتونة “يعيد العهد الذهبي لمركز الأبحاث” الفلسطيني؛ حيث كان لذلك تأثير معنوي كبير في نفوسنا.
ولعل متابعي كتابات د. بيان يلاحظون أنّ اسمها المكتوب على كتبها هو بيان نويهض الحوت، وهو اسم يجمع عائلتي والدها وزوجها، كما هي العادة لدى كثيرين في لبنان.
عادت د. بيان إلى لبنان في الفترة 19481951 لتتابع دراستها، ثم انضمت لوالدها في الأردن، ودرست في كلية المعلمات في رام الله حتى تخرجت سنة 1956 ، ثم عملت مُدَرِّسة في عمَّان، وانتسبت لحزب البعث العربي الاشتراكي، ثم عادت مع والدها سنة 1959 إلى لبنان، فجمعت بين الجنسيات الفلسطينية والأردنية واللبنانية، وهي التي ترفض أصلاً اتفاقات سايكس بيكو واستتباعاتها. ونشطت في العمل الصحفي في “دنيا المرأة” وفي “الصيَّاد”، وقد انسحبت من حزب البعث بعد أن صُدمت بانفصال سورية وفشل مشروع الوحدة مع مصر. وانضمت إلى جانب زوجها لجبهة تحرير فلسطين طريق العودة؛ غير أنها عادت منذ 1969 لتُركّز على متابعة دراستها الجامعية العليا، ولتصبح إحدى أبرز أيقونات الذاكرة الفلسطينية. وبعد أن نالت الدكتوراة سنة 1978 ، صارت أستاذة في الجامعة اللبنانية، وتابعت تعاونها مع مركز الأبحاث، ومع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وشاركت في تأسيس المؤتمر الإسلامي القومي، وكانت عضوة في مجلس إدارة مؤسسة القدس الدولية، بالإضافة إلى عضويتها في الهيئة الاستشارية لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت، كما نالت جائزة القدس للثقافة والإبداع سنة 2015 .
وقد ظلّت الدكتورة بيان وفية للمقاومة وخطّها، وكان الحديث عن صمود المقاومة وانتصارها يشغلها دائماً كلما تواصلنا معها؛ وعُرفت بطبيعتها العملية الجادة التي تفرض الاحترام والتقدير أينما حلَّت.
رحم الله د. بيان نويهض، فقدت خسارة الساحة العلمية والنضالية الكبيرة بفقدها.