أمد/ مع الذكرى الثانية لانطلاق حرب الإبادة ضد شعبنا في قطاع غزة، ومع كل ما تركته هذه الحرب من دماء ودمار هائل تكاد تكون محاولات وصفه مبتذلة، يجدر بنا أن نقف مع أنفسنا لنستنبط بعض الدروس، لتكون هذه الحرب بويلاتها وآلامها نقطة انطلاق نحو إعادة التفكير بالتفكير السياسي الفلسطيني الذي أنتج كل هذا العجز والانكشاف أمام آلة الإبادة الإسرائيلية.
إن نقطة الانطلاق الطبيعية لهذا التفكير هي في مراجعة التفكير السياسي الذي أنتج قرار السابع من أكتوبر، حيث يسهل تعداد الأسباب والظروف الموجبة للانتفاض في وجه المحتل، من القتل اليومي إلى حصار غزة المستمر وتشديد الخناق على الضفة الغربية وسعار الاستيطان فيها وتهويد القدس ومجمل سياسات الحكومة اليمينية الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل. بل إن وجود الاحتلال بحد ذاته، دون تصرف إضافي، مبرر كافٍ لمقاومته كما كفلها القانون الدولي. لكن هذا ليس هو السؤال، فوجود الأسباب الموجبة شيء، والسبب العيني الذي دفع لاتخاذ قرار السابع من أكتوبر شيءٌ آخر. أو بكلماتٍ أخرى، هناك مسافةٌ بين مشروعية الفعل وجدواه، فإن كانت مشروعية الفعل المقاوم ثابتة كحقٍ وواجب فإن جدوى فعلٍ أو أسلوب نضالي معين متغيرة تحكمها عدة عوامل، كالأهداف الوطنية وأولوياتها المرحلية، وظروف الشعب الفلسطيني الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، والظروف الإقليمية والدولية، وطبيعة رد فعل العدو المتوقعة ضمن معادلات الاشتباك المألوفة منه وحالة المستوى السياسي في إسرائيل، وقياس كل هذه العوامل محكوم بالتفكير السياسي عند متخذ القرار.
بتقييمٍ يسبق حتى كل هذه الكوارث التي حصلت خلال عامين من الإبادة، لا يمكن عقلنة قرار السابع من أكتوبر أو فهمه ضمن هذه العوامل في سياق تفكيرٍ سياسي عقلاني، فالواقع الداخلي الفلسطيني في قطاع غزة قبل السابع من أكتوبر مأساوي بكافة المقاييس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والقطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم تعاني من عجزٍ مستمر نتيجة الحصار الإسرائيلي الطويل للقطاع، وحجم الكتلة البشرية مضافاً إليها المساحة الصغيرة والتضاريس غير المواتية، تجعل من أي حربٍ برية داخل القطاع وصفة للإبادة الجماعية والمجازر والمجاعة والأمراض، بل هي غير مناسبة حتى لأسلوب حرب العصابات.
أما الظروف الإقليمية والدولية فهي أيضاً لم تكن مواتية مطلقاً، فعلى الصعيد العربي، كان قطار التطبيع المدفوع بالخوف من إيران منطلقاً، وعلاقة الأنظمة العربية الوازنة بجماعات الإسلام السياسي، خاصةً مصر والإمارات والسعودية، في أسوأ حالاتها. وعلى الصعيد الدولي فإن إسرائيل كانت تحكم قبضتها على السياسة الخارجية في الولايات المتحدة وجزء كبير من أوروبا باستخدام مجموعات الضغط والعمل الدبلوماسي الموجه، فضلاً عن المصالح الاقتصادية والسياسية التي توفرها لجزء كبير من الغرب باعتبارها امتداداً لليد الغربية في قلب العالم العربي. فضمن هذه الظروف وفي ظل موقع حركة حماس بالنسبة للأنظمة العربية كجزء من الإخوان المسلمين بالإضافة إلى علاقتها الوثيقة بإيران، لم يكن من المعقول توقع دعمٍ عربي أو دولي لأساليب حماس وبرنامجها السياسي فضلاً عن دعمٍ لخطوة مثل السابع من أكتوبر.
أما عن الوضع الداخلي الإسرائيلي فحدث ولا حرج، فحكومة السادس من أكتوبر هي الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، ولا يشك عاقلٌ في أنها لن توفر وسيلة من وسائل الانتقام والإبادة أو خطةً من خطط التهجير والقضاء على حلم الدولة الفلسطينية أو خطةً من خطط التوسع والهيمنة على المنطقة إن توفرت لها الذريعة المناسبة دولياً. أضف إلى ذلك أن حجم ما حصل يوم السابع من أكتوبر من مقتل عددٍ غير مسبوق من المدنيين، إضافةً للإهانة العسكرية وحجم الاختراق الأمني الهائل، شكّل صدمةً عميقة في الوعي والكبرياء الإسرائيلي فعّلت حقيقته الإجرامية المتوحشة التي تدنّت به إلى البربرية.
ضمن هذه المعطيات، فضلاً عن فاتورة الدم والدمار والمعاناة غير المسبوقة، لم يعد إشكالياً أن تقول أن حماس قد أخطأت في اتخاذها لقرار السابع من أكتوبر، بل قام بذلك بعض أبرز قادتها ومؤيديها، تصريحاً وتلميحاً. وعلى الرغم من محاولاتٍ للتبرير والعقلنة لا تخلو من تعصبٍ حزبي أو شعبويةٍ تحاول دغدغة العواطف، ممن هم في غالب الأحيان خارج قطاع غزة، فإن بحر الدماء والتضحيات والإبادة الجماعية الحاصلة باعتراف كافة المؤسسات الدولية المختصة، يجعل من عدم الاعتراف بالخطأ ممجوجاً وينمّ عن استخفاف ليس فقط بالعقول، وإنما بالدماء. لا أقول هذا لأسجل موقفاً على حماس مع أن ذلك مشروع بل ببساطة لأن الاعتراف بفشل تجربةٍ ما هو شرطٌ ضروري لإمكانية استنباط الدروس من هذه التجربة منعاً لتكرارها، لا سيما وأن هذه التجربة قد تسببت بإبادة جماعية ودمارٍ غير مسبوق، كما أن النقد هو وقود استمرارية الحركة الوطنية عبر تشذيب وسائلها النضالية وضمان فاعليتها في تحقيق أهدافها، وتجنب تكرار المآسي.
من المهم الإشارة أيضاً إلى أن العديد من التصريحات حول ظروف اتخاذ قرار السابع من أكتوبر، أهمها وآخرها ما ورد في مقابلةٍ لوكالة تنسيم مع قائد قوة “القدس” في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قآاني، تشير إلى أن هذا القرار لم يتخذ بالتشاور مع أحدٍ في محور المقاومة، بل ولا مع قيادة حماس في الخارج، وأن إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس لم يكن يعلم.
فهل يعقل أن يُتخذ قرار بحجم “طوفان الأقصى” بدون التشاور مع الحركة الوطنية الفلسطينية ولا محور المقاومة الذي تعتبره حماس تحالفها الإقليمي ولا حتى قيادة حماس ذاتها؟ خاصةً أن حماس قد عابت تاريخياً على منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح تفردها بالقرار الفلسطيني. فأي قرارٍ أكثر خطورة من قرار الدخول في حربٍ مفتوحة دون قواعد مع الاحتلال في ظل كل هذه الظروف الداخلية والخارجية كي يستحق مشاورة وطنية شاملة؟ والأهم من ذلك، ما هي طبيعة التفكير السياسي التي أدت بمتخذ القرار بأن يقوم بعملية “طوفان الأقصى” في ظل كل هذه الظروف التي سلف ذكرها؟
إن اتخاذ قرار السابع من أكتوبر كان نتيجة للعديد من مشكلات ومغالطات التفكير السياسي لدى حماس، يتلخص أهمها في هذه العجالة بأربعة مشكلات، أولها وأهمها هي البنية التحتية الفكرية المتمثلة بالتفكير السياسي للجماعات الإسلامية الذي يؤمن بالحسم مع أعداء الدين بالضربة القاضية، والذي لا يعطي كبير اعتبارٍ لموازين القوى نتيجةً لقناعاتٍ دينية هي في الواقع قناعاتٌ حركية حول نصرة الله لعباده المجاهدين مهما قل عددهم أو عتادهم، ونتيجة لاختلال معيار النصر والهزيمة النابع من أدبيات الإسلاميين مثل قصة أصحاب الأخدود كما يلخصها الشعار الشهير ” الموت في سبيل الله أسمى أمانينا” والاعتقاد بنبوءات زوال إسرائيل وأفكارٍ ومفاهيم من قبيل ملاحم آخر الزمان ووعد الآخرة والعديد من القناعات السياسية التي تشترك فيها حماس مع بقية الجماعات الإسلامية، تلك القناعات التي تسببت بمآسي لا تحصى للإسلاميين أنفسهم وللمجتمعات من حولهم في سوريا وأفغانستان وغيرها، والتي تستحق مجلداتٍ من النقد الديني لإظهار أنها قناعاتٌ حركية لا تمت بصلةٍ إلى الفقه الإسلامي الرصين أو السياسة الشرعية. ولا يخفى على متابع كم تظهر هذه القناعات في خطب ولقاءات قادة حماس وناطقيها وفي أدبياتها وبياناتها وموادها المصورة وأناشيدها، بل وفي بيان انطلاق عملية “طوفان الأقصى” صباح السابع من أكتوبر.
ثاني هذه المشكلات هي التصورات الخاطئة أو الفهم المجزوء لواقع إسرائيل الداخلي، هذا التفكير الذي بقي أسيراً لشعاراتٍ ترسخت في العقلية السياسية لدى حماس وجزء كبير من الشعب الفلسطيني ومنها أن إسرائيل لا تستطيع دخول حروب استنزاف أو مواجهاتٍ عسكرية طويلة، وأن المجتمع الإسرائيلي مجتمعٌ مفكك متهتك، وأن الاقتصاد الإسرائيلي هشّ لا يحتمل الحروب لفترات مطولة، وأن اليهود جبناء لا يحاربون، وأننا على بعد هبةٍ واحدة من التخلص من إسرائيل إلى الأبد، هذه التصورات التي قد هدمت بفعل الإبادة المستمرة منذ سنتين.
ثالث هذه المشكلات هي الغلو في اعتبار الكفاح المسلح الشكل الوحيد من أشكال النضال الفلسطيني والاستخفاف بل الاستهزاء بأي وسيلةٍ أخرى كالمقاومة الشعبية أو النضال الدبلوماسي، ما أدى إلى طغيان الجانب العسكري على الجانب السياسي بسبب تضخم الذراع العسكري لحماس ومأسسته وتشبهه بالجيوش النظامية، حيث صار هو مركز الثقل في أي قرار سياسي أو عسكري في حماس وحاد عن كونه أداة تنفيذية، مما أخضع السياسة لدى حماس للاعتبارات العسكرية وليس العكس كما هو الطبيعي. يبدو ذلك واضحاً في مبررات التحالف مع إيران ومحورها التي لا تتجاوز أن محور إيران يمد الذراع العسكري لحماس بالمال والعتاد والتدريب والتقنية، إذ لا مبرر سياسي للتحالف مع إيران فهو تحالفٌ مكلف سياسياً وليس من شأنه أن يكون رافعة لأي نضال سياسي دولي، إنما الاعتبار الذي خضعت له السياسة هو اعتبار عسكري وحسب.
رابع هذه المشكلات هي القناعة المترسخة لدى حماس بأنها وحدها تمثلّ وتتماهى مع فكرة المقاومة، فهي تتعامل مع نفسها أنها وحدها على الحق الذي لا يحاد عنه وهذه أيضاً من أمراض الجماعات الإسلامية عموماً ومن ثم فهي لا تتقبل اشتراك غيرها معها في اتخاذ القرارات مهما كانت مصيرية، إذ لها وحدها باعتبارها هي ذاتها المقاومة شرعية إدخال الناس في حروبٍ عندما ترى قيادتها ذلك.
إن هذه القناعة هي الأساس الذي يجعل حماس ترفض تحمل مسؤولية شيء من الكوارث التي حلت منذ السابع من أكتوبر، وتطعن في كل من ينتقدها بوصمه بأنه يعفي الاحتلال من المسؤولية، وكأن هناك تعارضاً بين القول بإن إسرائيل هي من ارتكبت الإبادة الجماعية وبين القول بأن حماس هي من أخطأت وتهورت فوفرت للاحتلال الذريعة لارتكاب هذه الإبادة. والواقع أن مثل هذه التملصات اللفظية من النقد والمراجعة للقرارات التي تؤدي للكوارث تشير إلى لبّ هذه المشكلة، وهي الاعتقاد الراسخ عند حماس أن هناك تطابقاً بينها وبين مفهوم المقاومة، فمؤدى هذا الاعتقاد هو ألا يكون هناك متسع لتقبل النقد إذ أن المقاومة، بوصفهما مقدّس الشعوب المقهورة، لا يتصل بها نقدٌ موضوعي، فإما طعنٌ مذموم متساوق مع الاحتلال، وإما تقديس مطلق لا يشوبه تساؤل.
إن هذه بالطبع ليست كل مشكلات التفكير السياسي لدى حماس خاصةً والحركة الوطنية الفلسطينية بالعموم، بل إن هذه المشكلات تكتب فيها المجلدات، لكن من المهم استغلال هذه اللحظة المريرة للإضاءة على شيء من الأساس الفكري والنظري الذي حصلت ضمن إطاره أعظم كوارث هذا الشعب الفلسطيني منذ النكبة.
إن النقد والمراجعة للتجارب والأساليب النضالية هو سبيل إصلاح الحالة الوطنية الذي لا سبيل غيره ليتجنب شعبنا شبح الفناء ويفوت الفرصة على عدوه الذي يريد محوه وتشريده من أرضه، وإصلاح الحالة الوطنية بعد انتهاء هذه الحرب يكون ببناء برنامج نضالي وطني شامل يجنّد كل الطاقات في سبيل أولويتين: تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في أرضه، وتجنيد العالم في مواجهة المشروع الصهيوني. وإن تعزيز صمود شعبنا فوق أرضه لا يكون بالشعار والأغنية والخطبة، بل يكون بتحقيق مقومات هذا الصمود على أرض الواقع، من توفير لقمة العيش والصحة والتعليم، والأمل في حياةٍ مستقرة، وتمكين الشباب اقتصادياً واجتماعياً، وبث الوعي بالهوية الوطنية في عقول الأجيال القادمة، مما يعني في اليوم التالي لغزة، بناء غزة من جديد أفضل مما كانت عليه، ويعني في الضفة الغربية بناء المؤسسات الوطنية وحوكمتها ومحاربة الفساد. كما أن تجنيد العالم في مواجهة المشروع الصهيوني يكون ببناء برنامج وخطاب نضالي فلسطيني قابل للتدويل، يستطيع استغلال الظرف الدولي الآخذ بالتوجه نحو فلسطين، فالتغير في الظروف الدولية شرطٌ ضروري للتقدم في المشروع الوطني الفلسطيني لكنه لن ينتج شيئاً إلا بالتقائه بظرف داخلي فلسطيني ومشروع نضالي قابل للاستفادة من هذه الظروف والبناء عليها. هذا البرنامج يجب أن يبنى على المشترك الإنساني المتمثل بالعدالة وحقوق الإنسان والشرعية الدولية ورفض الاستعمار الاستيطاني العنصري وتوضيح حقيقة إسرائيل ودفعها للمواجهة مع العالم باعتبارها نظام الفصل العنصري الوحيد المتبقي. ومأسسة الحراكات الدولية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني لضمان استمراريتها وفعاليتها حتى بعد انتهاء حرب الإبادة في تكوين ضغط شعبي محرك للحكومات في سبيل فرض العقوبات على إسرائيل وتعميق عزلتها الدولية.
يمكننا بل يجب علينا أن نحول آلام الإبادة إلى لحظة انطلاق نحو إعادة تفكير شاملة بالمشروع الوطني الفلسطيني، لنتجنب الأخطاء والكوارث ونراكم على الإنجازات، ونحافظ على بقاء شعبنا فوق أرضه، كأولوية أي فعلٍ نضالي وبوصلة صواب أي برنامج سياسي، لعلنا نكون أوفياء لكل هذه الدماء التي سالت على مذبح السابع من أكتوبر.