بطولة المدرجات الخالية..
صنعت الجماهير العاشقة لكرة القدم الحدث في نهائيات كأس أمم إفريقيا بكوت ديفوار.. إنما بشكل مغاير تماما لتقاليد مباريات كرة القدم، التي يكون فيها الجمهور اللاعب الثاني عشر، يضفي على مدرجات الملاعب “روحا” للعبة التي لم يطلق عليها من العدم لقب “الأكثر شعبية” من بين كل الاختصاصات الرياضية الأخرى.
بروز جماهير الكرة في “كان كوت ديفوار” فرضه العزوف عن متابعة مباريات المنتخبات الإفريقية المنافسة على اللقب القاري في الطبعة الرابعة والثلاثين، وقد يكون لـ”البروز بالعزوف” إشكالية يمكن إخضاعها لدراسة شاملة بحثا عن مدى تأثير رقم غائب عن معادلة معقدة في لعبة كرة القدم، لا تنص قوانينها على سلامة المباريات بغياب “لاعبي المدرجات” من الجماهير على خلاف تداعيات غياب “لاعبي” الميدان للفرق والحكام خلال المباريات.
وفي إطار الجانب الاقتصادي للعبة كرة القدم وما تدره من أموال على اللاعبين والمدربين والإداريين والرسميين وكافة المنتفعين من ممارستها، وبالأخص تسويقها للجماهير، فقد “كسرت” كأس إفريقيا للأمم بكوت ديفوار على حين غفلة منطق “العرض والطلب”، بين الميدان والمدرجات، في مرحلة جديدة من “التجاذب” بين طرفي المعادلة “الرياضية الاقتصادية”، وقد بدأ “الشد والجذب” في “الاستثمار الكروي” بإجراءات “تشفير” المباريات على المشاهدين من الجماهير وجعل متعة متابعة المباريات والاستمتاع بهذا الشغف على الشاشات أكثر تكلفة من بيع تذاكر دخول الملاعب، حتى أفضى “الدافع الربحي” من وراء الرياضة الأكثر شعبية بعيد المنال عن البسطاء من الشعوب أساس شعبية كرة القدم أصلا.
غياب الجماهير عن ملاعب “كان كوت ديفوار” أحدث “زلزالا” حقيقيا في بداية المنافسة القارية بكوت ديفوار، حتى أن مباراة منتخب البلد المضيف لم تشهد “اكتظاظ المدرجات”، على خلاف ما عهدته الكرة في سابق الطبعة، باستثناء ربما الطبعة السابقة بالكامرون التي تزامنت مع وضع صحي صعب بسبب “كوفيد 19”. وقد تم تسجيل في “كان كوت ديفوار” حضور 37 ألف متفرج في مباراة كوت ديفوار وغينيا بيساو (2/0) بملعب الحسن واتارا الذي يتسع لنحو 60 ألف متفرج، فيما لم تستقطب مباراة مصر، بقيادة النجم محمد صلاح، أمام الموزمبيق (2/2) سوى 8 آلاف متفرج بملعب يتسع لـ45 ألف متفرج، حتى طغى الغياب الجماهيري بشكل واضح على الحدث الكروي.
ومن تبريرات “الركود” في “سوق الكرة” ما يقدّم، على الأرجح، دلالات واضحة للإشكالية المقترحة للدراسة والتشريح، بل هي مبررات تعيد “تجار الكرة” إلى جادة الصواب، حين تجعلهم يقفون على واقع “زبائن الكرة” التي جعلوا منها منذ نشأتها إلى اليوم تختلف عن باقي الرياضات الأخرى، وقد حوّلهم الزمن إلى “حطب نار” في لعبة ألهبتها “مدرجات الكرة” ورفعت من شأنها وقيمتها حتى بعدم استقرار عرضها ومستواها، حتى أضحت التكلفة أكبر من القدرة، وأصبح، بالتالي، الطلب أقل بكثير من العرض، وتبيّن من خلال العزوف أن شعبية الكرة وانتشارها وشهرتها والأموال التي تدرها يعود الفضل فيها أساسا للطبقة الشعبية البسيطة.
وبتشريح صور “المدرجات الخالية” وقف المنظمون، سواء على مستوى “الكاف” أو على مستوى السلطات الإيفوارية، على أن “جشع” بعض المؤسسات الكبيرة التي اقتنت كل التذاكر المطروحة بغرض بيعها في “السوق الموازية” من بين أسباب غياب حتى المتفرجين العاشقين للكرة وليس المشجعين العاشقين للمنتخب، كون غلاء ثمن تذاكر معروضة لأصحاب الدخل المحدود قاد إلى تلك الصورة التعيسة لأكبر مسابقة كروية إفريقية.
ولأن التطور التكنولوجي ساهم في تطوير تسويق اللعبة وآليات متابعة مباريات كرة القدم في الملاعب، فقد ترك التطور أثرا “معاكسا” على عملية الاستثمار في الجماهير خلال “الكان”، على اعتبار أن المدرجات، التي تزيد من جمالية المباراة وترفع من قيمة تسويقها وتزيد من مستوى فرجتها، تستهوي “البسطاء” أكثر، واجهت مشكلة تواجد المشجعين أمام معضلة اقتناء التذاكر الإلكترونية، حتى اضطر المنظمون، لإنقاذ واجهة الدورة، إلى توزيع العديد من التذاكر بالمجان على الجماهير الحقيقية لكرة القدم التي وضع “تغييبها القسري” حدا لسقف الفكر التجاري غير المحدود للمنتفعين منها.
وبعيدا عن الصورة السلبية للمدرجات الخالية التي “زعزعت” الجميع بعد تداولها على نطاق واسع على منصات التواصل الاجتماعي وعلى مستوى الإعلام العالمي، وبعيدا أيضا عن وعود رئيس الحكومة الإيفواري بـ”تدارك الوضع خلال 48 ساعة” وإلقائه اللوم والمسؤولية على “الكاف”، فإن المخاوف من فقدان البطولة جمالياتها بغياب الجماهير يأتي، حتما، في المقام الثاني من حيث قائمة “مخاوف” المنظمين والهيئة الكروية القارية، كون تراجع التفاعل الشعبي مع اللعبة الأكثر شعبية لا يقدم، في نهاية الأمر، سوى مؤشر واحد يفرض نفسه على كل الاستنتاجات ويصُب في خانة “الإجماع القسري”، ونقصد به “الخوف” من تراجع عائدات الاستثمار في الكرة إلى درجات دنيا، يكون فيها الجشع وسقوط بُعد النظر في دراسة “سوق الكرة” أقوى أسباب عرض بطولة كبيرة تحت عنوان.. “كان بلا جمهور”.