الهوية الوطنية الفلسطينية بين صراع البقاء والانتماء

أمد/ تمثل الهوية الوطنية الفلسطينية جوهر النضال الفلسطيني المستمر، فهي ليست مجرد انتماء جغرافي أو قانوني، بل حالة من الصمود والارتباط العميق بالأرض والتاريخ. منذ النكبة، ظل الفلسطينيون في مواجهة دائمة مع محاولات طمس وجودهم وهويتهم، سواء عبر الاحتلال المباشر أو من خلال السياسات الممنهجة التي تستهدف ثقافتهم وتراثهم. وبينما يسعى الاحتلال إلى فرض واقع جديد يقوم على الاستيطان والتهجير، يبقى الفلسطيني متشبثًا بأرضه، مؤمنًا بأن هويته ليست مجرد كلمات، بل تجربة حية تتجسد في مقاومته اليومية وفي تمسكه بثوابته الوطنية. كما أن الهوية الفلسطينية ليست شعارًا يرفع، بل هي حالة وجدانية متأصلة، تنبع من التاريخ المشترك والمعاناة الممتدة، وتعبر عن نفسها في كل تفاصيل الحياة، من الحكايات الشعبية إلى الفنون، ومن اللغة إلى العادات والتقاليد.
والهوية الوطنية الفلسطينية تقوم على عناصر عدة، لعل أبرزها الذاكرة الجماعية التي تحفظ التاريخ الفلسطيني بمراحله المختلفة، بدءًا من الانتداب البريطاني وصولًا إلى النكبة والنكسة والانتفاضات المتكررة، حيث تشكل هذه الأحداث محطات مفصلية في صياغة الوعي الفلسطيني. كما أن المكان يشكل بعدًا جوهريًا في هذه الهوية، فالأرض ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي رمز للانتماء والوجود، ولذلك كان الاستيطان الإسرائيلي واحدًا من أخطر التحديات التي واجهت الفلسطيني، إذ يسعى إلى تحويله إلى كيان بلا جذور. في المقابل، تعزز اللغة والثقافة الهوية الفلسطينية، إذ تمثل اللغة العربية بلهجتها الفلسطينية جزءًا من المقاومة الناعمة، وتأتي الفنون والأدب والشعر لتعبر عن معاناة الفلسطينيين ولتوثق صمودهم. ولا يمكن إغفال الدور السياسي في ترسيخ الهوية الوطنية، فالوعي السياسي لدى الفلسطيني يعزز إحساسه بالمواطنة، ويدفعه إلى النضال من أجل حقوقه، سواء عبر المقاومة أو من خلال الدفاع عن قضيته في المحافل الدولية.
إلا أن هذه الهوية تواجه تحديات خطيرة تهدد بقاءها، يأتي في مقدمتها الاحتلال والاستيطان، حيث يسعى الاحتلال إلى تغيير الواقع الديمغرافي من خلال التهجير القسري، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل، وإحلال مستوطنين مكان السكان الأصليين. كما أن اللجوء الفلسطيني، الذي فرض على الملايين منذ عام 1948، جعل الحفاظ على الهوية تحديًا أكبر، خاصة في ظل محاولات دمج اللاجئين في المجتمعات الجديدة، سواء عبر سياسات التوطين أو من خلال الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يعيشونها. يضاف إلى ذلك محاولات التزييف الإعلامي التي تهدف إلى طمس الرواية الفلسطينية، إذ تستخدم بعض القوى الإعلامية خطابًا مضللًا يسعى إلى إظهار الفلسطيني كمعتدٍ بدلًا من كونه ضحية للاحتلال، مما يخلق صراعًا آخر، يتمثل في ضرورة إعادة إنتاج الرواية الوطنية الصحيحة وتثبيتها في الوعي العربي والعالمي. ولا يمكن إغفال الانقسام الداخلي الذي أثر بشكل سلبي على وحدة الموقف الفلسطيني، حيث أضعف الهوية الوطنية الجامعة، وخلق حالة من الاستقطاب السياسي الذي انعكس على المجتمع الفلسطيني بأكمله.
ورغم كل هذه التحديات، هناك العديد من الأدوات التي تساهم في الحفاظ على الهوية الفلسطينية وتعزيزها. يأتي في مقدمتها التعليم والتربية الوطنية، حيث تلعب المناهج الدراسية دورًا أساسيًا في ترسيخ الوعي التاريخي والسياسي لدى الأجيال الجديدة، وهو ما يجعل الاحتلال يحاول باستمرار التأثير على المناهج الفلسطينية أو فرض رؤيته الخاصة من خلال المدارس الخاضعة لسيطرته. كما أن الإعلام والتوثيق يمثلان سلاحًا قويًا في معركة الحفاظ على الهوية، فالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم منصة لنشر الرواية الفلسطينية، وتفنيد الأكاذيب التي تروجها الدعاية الإسرائيلية. إلى جانب ذلك، يشكل التراث والثقافة حصنًا منيعًا ضد محاولات المحو، فالحفاظ على الأغاني الشعبية، والأزياء التقليدية، والمأكولات التراثية، وكل ما يتعلق بالهوية الثقافية الفلسطينية، هو شكل من أشكال المقاومة. أما المقاومة بأشكالها المختلفة، فهي العامل الأهم في حماية الهوية الفلسطينية، سواء كانت مقاومة سياسية، ثقافية، أو حتى مقاومة الحياة اليومية التي يثبت الفلسطيني من خلالها أنه متشبث بحقه في الوجود.
إن صراع الهوية الوطنية الفلسطينية ليس مجرد معركة سياسية أو قانونية، بل هو معركة وجودية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فالفلسطيني الذي فقد بيته في الحرب، والذي شُرّد قسرًا، والذي يعيش تحت القصف والاحتلال، لا يزال يحمل في داخله هويته، ويورثها لأبنائه كأغلى ما يملك. ولأن الاحتلال يدرك أن اقتلاع الإنسان من جذوره لا يكتمل إلا باقتلاع هويته، فإنه يسعى بكل السبل إلى طمس هذه الهوية، لكن التاريخ أثبت أن الشعوب التي تمتلك وعيًا وطنيًا عميقًا، لا يمكن اقتلاعها بسهولة. من هنا، تبقى الهوية الفلسطينية حية في ذاكرة كل فلسطيني، تتجلى في الأهازيج والأمثال الشعبية، في المفتاح الذي تحتفظ به العائلات المهجرة، في صور المدن العتيقة التي تُزين البيوت، وفي تمسك الفلسطيني بحقه في العودة حتى لو بعد مئة عام. هوية ولدت من الألم، لكنها صارت رمزًا للصمود، وهو ما يجعل صراع البقاء والانتماء معركة مستمرة، لا تنتهي إلا بانتصار الحق.
**أستاذ أصول التربية المساعد