أمد/ حَدَّثَنا الصَّديقُ أَبو جُورج الحَلَبِيُّ، وَهُوَ أَرمَنِيٌّ عَتِيقْ، ذُو دُعابَةٍ، وَفِي أَحادِيثِهِ لَطِيفٌ رَقِيقْ، وَهُوَ مِن مُحِبِّي حَلَبَ وَتَاريخِها العَرِيقْ، يَعمَلُ في إِصلاحِ وَتَنظِيفِ (الاشطماناتْ)، لَكِنَّهُ بارِعٌ في الظَّرافَةِ وَإِلقاءِ النُّكاتْ.
قال: «(جانِمْ! )تَنظِيفُ نَهرِ قُوَيقْ مِنَ الأَوساخِ وَالفَضَلاتْ، أَسهَلُ مِنَ القَضاءِ على الوَسَاطَةِ وَالمَحسوبِيّاتْ».
وَسَأَقُصُّ لَكُم قِصَّةً تُعَبِّرُ عَن هذِهِ المُشكِلَةِ بِالذّاتْ:
يُحكَى أَنَّ رامِي مَخْلوفْ، ذاكَ الَّذي أَصبَحَ مَعروفْ،
بِأَنَّهُ رَمزٌ لِلفَسادْ،
وَأَشهَرُ مِن نارٍ عَلى عَلَمٍ في كُلِّ البِلادْ.
نَصَحَهُ مُستَشارُوهُ أَن يُحَسِّنَ مِن صُورَتِهِ القَبِيحَةْ،
بِاستِغلالِ ما تَجُودُ بِهِ أَقلامُ أَهلِ القَرِيحَةْ،
وَإِقامَةِ مُسابَقَةٍ شِعريَّةٍ أَدَبِيَّةٍ لِلفَصاحَةْ،
يُدعَى لَها الأُدَباءُ وَالشُّعَراءُ مِن دُعاةِ الإِصلاحِ وَالحُرِّيَّةْ،
وَيُعلَنُ عَنها في كُلِّ مَيدانٍ وَساحَةْ.
وَكانَ عُنوانُ المُسابَقَةْ: «الفَصاحَةُ عِندَ شُعَراءِ القَرداحَةْ».
وَمِنَ البَدِيهِيِّ في مِثلِ هذِهِ المُناسَباتْ، أَن يَتَرَأَّسَ لِجانَ التَّحكِيمِ رِجالٌ ثِقاتْ،
وَمَن لِمثلِ هذِهِ المُهِمّاتْ، سِوَى المُساهِمِ في تَطوِيرِ وَإثراءِ الفِكرِ العَرَبِيِّ في البَلَدْ، صاحِبِ
الرَّباطَةِ وَالجَلَدْ، المُفَكِّرِ الدُّكتورِ وَسيمِ الأَسَدْ.
وَفي المَوعِدِ المَذكورِ تَجَمَّعَ الجُمهورُ وَارتَفَعَتِ الأَستارْ،
وَقَرَأَ الشُّعراءُ ما جادَت بِهِ قَراحُهُم مِنَ الأَوزانِ وَالأَشعارْ.
وَلَم يَتَفاجَأِ الحُضورُ بِإِعلانِ النَّتائجْ،
لِأَنَّها لَم تُخالِفْ ما تَعَلَّموهُ في المَدارِسِ وَالمَناهِجْ:
بِأَنَّ الفائِزَ الأَوَّلَ حَتمًا سَيَكونُ مِنَ القَرداحَةْ.
لَكِن قامَ أَحَدُ المُتَحَذلِقينَ مِن أَهلِ الاعتراضْ،
وَقالَ: «قَصيدَتُهُ عاديَّةٌ وَتَعبيراتُها سَطحيَّةْ،
وَفيها العاميُّ مِنَ الأَلفاظْ،
وَلَم يَتَعَنَّ حَتّى يَضعَها بَينَ قَوسَينْ، أَو يُشِيرَ إِلَيها وَلَو بِطَرفَةِ عَينْ».
فَما كانَ مِنَ الدُّكتورِ وَسيمِ الأَسَدِ إِلّا أَن جَحَظَتْ عَيناهُ،
وَانتَفَخَت أَوداجُهُ قائِلًا بِغَضَبْ:
«يَبدو أَنَّكُم تَأَثَّرتُم بِأَفكارِ الإِرهابيّينْ!
ما بِها لَهجَةُ أَهلِ القَرداحَةْ.
أَيُّها المَلاعِينْ؟
فَفيها مِنَ المَلاحَةْ، ما يَفوقُ لَهجَةَ تَميمٍ وَقُرَيشْ،
وَيَكفِيها فَخرًا أَنَّها أَصبَحَتِ اللُّغَةَ الرَّسمِيَّةَ في المُخابَراتِ وَالجَيشْ،
وَما الضَّيرُ أَن نُغَيِّرَ القَواميسْ؟!
لِنُخرِسَ هؤُلاءِ المَتاعيسْ!».
فَضَجَّتِ القاعَةُ بِالتَّصفيقِ وَالصِّياحْ،
وَهَتَفَ الجَميعُ:
«تَبًّا لِلقَواميسْ إِذا لَم تَلبِّ طُموحاتِ ابنِ عَمِّ الرَّئيسْ!».
وَأَمَّا الفائِزُ بِالمَركَزِ الثّانِي فَلَم يُثِرِ الِاستِغرابَ وَالإِدهاشَ،
فَهُوَ مَعرُوفٌ مِن شُعراءِ بُستانِ الباشا،
فَقَصيدَتُهُ كانَت قَوِيَّةً رَغمَ احتوائِها على كُسورٍ عَروضِيَّةْ، وَيَبدو أَنَّهُ كَتَبَها عَلى عَجَلٍ وَلَم يَتَسَنَّ لَهُ إِصلاحُ الكُسورِ وَالخَلَلْ.
إِذ قالوا لَهُ: «أَعددنا لَكَ مُفاجَأَةً سَعِيدَةْ، وَمَنَحناكَ جائِزَةً فَرِيدَةْ، فَاكتُب لِهذِهِ المُناسَبَةِ قَصيدَةْ».
وَفي الخِتامِ قامَ الدُّكتورُ وَسيمٌ مُحَذِّرًا العُمَلاءَ وَالمُندَسّينْ، بِكَلِمَةٍ قائِلًا:
«سَنَبقَى سائِرونَ عَلى النَّهجْ، وَلَن نَلتَفِتَ إِلى أَيِّ هَرجٍ أَو مَرجْ،
حَتّى لَو وَصَلَ صُراخُ النّاقِدينَ إِلى اليابانِ وَالصِّينْ،
وَلا نَقبَلُ بِتَمزِيقِ الصُّفوفْ.
نحن قَومٌ شِعارُنا الشَّعبِيَّةُ وَالبَساطَةْ.
فَمَن أَرادَ أَن يَكونَ لَنا حَليفْ،
يَشتَرِي وَجبَةَ بَطاطا،
وَيَأكُلَها عَلى الرَّصيفْ،
فَهُوَ مُلتَقَى كُلِّ حُرٍّ شَرِيفْ».