أمد/ الجزء الثالث: انشقاقات حماس بين “المحررين” و “البراغماتيين”
تدهشني دهشة حماس، عندما يتم الحديث عن انشقاقات داخلية تجري في الخفاء والعلن بين تيارين “البراغماتيين” الذين يعيشون بالخارج ويدركون إلى أين العالم يتجه، و”الصقور” أو ما يسمونهم بجماعة مخيم جباليا، الموجودين داخل غزة.
أخيرا، ترى حماس نفسها في قائمة واحدة مع الفصائل التي شهدت انقسامات على مدار التاريخ، والحقيقة أن الأمر تأخر كثيرا جدا ليظهر الى العلن، ولعل لعنة الطوفان كانت السبب الرئيسي لظهور هذه الخلافات حول المال والنفوذ إلى العلن والتي كان آخرها بيان الحركة لرفع الغطاء عن بعض الأشخاص والمؤسسات داخل الحركة نفسها، وقد كان الأمر واضحا بأنه صادر عن “جماعة مخيم جباليا”.
من المؤكد أن البيان الذي نشر باسم الحركة ويتهم مؤسسة “وقف الأمة” و”منبر الأقصى” و”كلنا مريم” بعبارات التخوين ورفع الغطاء لم تنشره حماس رسميا، إنما من تيار “الصقور” داخل الحركة، لكن التيار الآخر من الحركة “البراغماتية” لم ينفه، خوفا من ظهور المزيد من الانشقاقات الواضحة إلى الاعلام والعلن، لكن الأمر بات واضحا للجميع أن الحركة تعاني الآن من انقسامات بين الخارج والداخل ليس لمصلحة القضية الفلسطينية، إنما حول المال والنفوذ.
ومن الطبيعي أن هذا البيان سيتسبب بضرر كبير لجهة تمويل رئيسة للحركة، وسيتسبب بضرر لتيار “البراغماتيين”، الذي أصبح يواجه جماعة مخيم جباليا بشكل علني، والذي يتخذ من مأساة غزة طريقا لتأكيد صدق توجهاته، لكن تجفيف مصدر رئيسي من مصادر تمويل التوجهات ستظهر العديد من هذه القضايا، وتتكشف قصص صمت الحديث عنها بعد تصفيات متعمدة و قتل في وضح النهار.
الذي يثبته هذا البيان المفاجئ والصادم لأنصار الحركة وعناصرها، أن تيار “الصقور” لا يزال متمسك في ماض قد تغيّر بعد الربيع العربي، لكنهم لم يعودوا يستطيعون الاستمرار بالصمت على مصادر تمويل مفتوحة للحركة بالخارج لتمويل غامض للخزينة الاستراتيجية للحركة والمال المدور وتمويل الفنادق في قطر وإسطنبول.
الغريب أن تيار الصقور بغزة بقيادة خليل الحية وعز الدين الحداد، يعرفون جيدا أن ما جُمع من تبرعات باسم غزة خلال العامين المنصرمين عن طريق البراغماتيين في الخارج يفوق المليارات اللازمة لإعادة إعمار قطاع غزة بالكامل، لكن الحركة في القطاع لم تر شيئا فعليا، حتى أن جماعة مخيم جباليا عندما دفعوا 2400 شيكل للأسرى المحررين خلال الصفقة الأخيرة اضطروا لدفعها بعملة بالية وقديمة وهي القضية المعروفة التي أعلن عنها بنك فلسطين عندما تعرض للسرقة خلال الأشهر الأولى للحرب، وكانت الاتهامات موجهة للحركة.
من وجهة نظر جماعة جباليا أن الجريمة هنا لا تتعلق فقط بخيانة الأمانة، بل بالاتجار بمعاناة شعب طحنته الحرب، وبعناصر الحركة الذين فدوا الوطن بدمائهم، وبشعب لم يجد قوت يومه بينما تُكدّس الأموال باسمهم، في الخارج، دون حتى محاولة تحويل أي أموال إلى مؤسسات التنظيم بالقطاع المنكوب، وهنا بدأت الانقسامات الحقيقية.
وعند متابعة الأحداث قبل وبعد الطوفان، نخرج بخلاصة الخلافات والتي يريد منها مشعل “تربية” تيار الصقور، بعدما قام الأخير بتهميش الأول بشكل كبير خلال فترة ما قبل الحرب، إذن فالأيام دول بين التيارين، وينتقمون من بعضهم البعض، لكن على حساب دم شعبنا الفلسطيني.
ولتأكيد كلامنا، فإن هذا البيان الصادر عن تيار داخل الحركة، لم يواجه حملات تشويه ونفي وتخوين، مثلما حدث مع الهيئة الخيرية الهاشمية التي عانت من حملات تضليل واتهامات بتلقي أموال نظير تنسيق دخول المساعدات إلى غزة، بينما يصمت الجميع اليوم عن اتهامات وتخوين “وقف الأمة” وأخواتها رغم أن المبالغ المُعلنة المختفية تتجاوز نصف مليار دولار!
الدهشة الحمساوية لتيارات بعينها داخل حماس تعيد التفكير أكثر بطبيعة عقل قادة الحركة التي تتبع أيديولوجية إسلامية مستعدة لفعل أي شيء مقابل أن تبقى، هل يصدق فعلا قادتها أنهم قادة حركة ربانية ويتلبسون هذا الوصف؟ أم أنهم يعرفون أنهم على النقيض من ذلك ويصرون على إخفاء انشقاقاتهم، مدركة أن الشعب الفلسطيني لن يستطيع لجمها، لأن الحركة تحمل عباية الإسلام، ومن يقف أمام الإسلام يخسر.
لكن في حالة الإنكار الشديد التي تمارسها حماس وعناصرها، ما يستدعي التفكير بطبيعة العقل الجمعي لهذه الحركة إذا ما كان سويا، وهذا مشكوك فيه لأسباب كثيرة لا يتسع لها هذا المقال أو ذكر بعض من جوانبها في مقالات مقبلة، وها نحن نرى أحد منتجاته الفادحة، الانقسامات والانشقاقات والقتال على المال والنفوذ..هكذا وصل الحال بحماس.
إن السابع من أكتوبر كانت بمثابة المسمار الأخير في نعش حماس وعصرها الذهبي كتنظيم مؤسساتي، حيث لم تأتِ الرياح العاصفة مثلما اشتهت السفن الخضراء قليلة ة في الإبحار، وأصبح بقاء حماس متماسكة ووقف الحرب أمران معاكسان تماما وخطان متوازيان لن يلتقيا، لكن الحركة لم تفهم ذلك واعتبرته ضمن “التآمر عليها”، لتدفع القضية الفلسطينية ثمنا أكبر من قدرتها بكثير جدا، لكن ما حدث خلال حرب الإبادة من موت ودمار وسحق للقطاع سيضع برنامج حماس “العسكري” على الأقل، أمام تساؤلات ستطال الحركة ودورها الوظيفي، وسيفرض عليها الإجابة عن أسئلة صعبة جدا، لعل أبرزها برنامجها “السلاح يحرر الأرض” للتحرير؟ أم أنها ستتخذ المفاوضات مسارا جديدا لها؟
لقد تسببت الحرب في تصدع جدران فكرة وبرنامج وهيكل الحركة بشكل عام، فالأمر لن يتوقف على الصقور والبراغماتيين، بل القاعدة الشعبية وعناصرها والتي لن أستغربت لو شاهدت منهم “داعش” و”جلجلت” تعود من جديد في غزة، وللحديث بقية في المقال القادم.

شاركها.