القائد صلاح الدين وتحرير بيت المقدس
قرّر صلاح الدين أن يشن هجوما حاسما على المدينة، وكثف رمايات المجانيق، مغطيا تقدم المهاجمين بحجارتها، وسيل من السهام والنبال يطلقها الرماة نحو المدافعين عن السور والحصون كي تشلّ مقاومتهم، ما جعل أولئك المدافعين يتراجعون عن مراكزهم، بينما تقدم المسلمون واجتازوا الخندق الخارجي المحفور حول السور، ثم التصقوا به وعملوا به نقبا وتهديما، واشتد قصف المجانيق، وتوالى رمي السهام والنبال من الرماة المتقدمين خلف المهاجمين يحمونهم، ونجح المهاجمون في فتح ثغرات عديدة في السور الذي أوشك أن يصبح ملكا للمهاجمين. وفي وقت ما من تاريخ 29 سبتمبر 1187، استطاع المهاجمون فتح “ثغرة كبيرة” في السور نفذ منها المسلمون، ورفعوا راياتهم عليه، إلا أن المدافعين ما لبثوا أن احتشدوا وردّوا المسلمين عن السور، ورغم ذلك، فقد أيقن المدافعون أن لا جدوى من دفاعهم، وأنهم مشرفون على الهلاك، بل إنهم هالكون حتما إن هم استمروا في عنادهم، وتزاحم الناس في الكنائس للصلاة والاعتراف بذنوبهم، وأخذوا يضربون أنفسهم بالحجارة، ويرجون المدد، والرحمة من الله، وقطعت النساء شعور بناتهن على أمل استثارة الرجال لحمايتهن من سبي المسلمين لهن (“مفرج الكروب”، يوسف النبهاني، 2/213).
دخول صلاح الدين بيت المقدس
تم الاتفاق بين صلاح الدين وباليان على تسليم المدينة وفقا للشروط التي ذكرناها، ودخلها صلاح الدين يوم الجمعة في 27 رجب 583هـ، وذلك بعد أن أعطى بالباب الأوامر لحاميتها بإلقاء السلاح والاستسلام لجند المسلمين، وكان يوما مشهودا ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوار المدينة المقدّسة، وقد استمر حصار صلاح الدين للمدينة 12. وبسقوط القدس، انهارت أمام صلاح الدين معظم المدن والمواقع التي كانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين في معظم أنحاء بلاد الشام، ودخل صلاح الدين القدس في 27 رجب وكانت ليلة الإسراء، فأمر بأن يوضع على كل باب من أبواب المدينة أمير من أمراء الجيش كي يتسلم الفدية من الصليبيين الخارجين من المدينة ويحتسبها. وكان في المدينة 60 ألف رجل ما بين فارس وراجل، سوى من يتبعهم من النساء، والولدان (“حروب القدس في التاريخ الإسلامي”، ياسين سويد، ص 106).
ويستطرد ابن الأثير: ولا يعجب السامع من ذلك، فإن البلد كبير، واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان، وغيرها، والداروم، ورملة، وغزة، وغيرها من القرى، بحيث امتلأت الطرق، والكنائس، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي.
وأما صلاح الدين؛ فإنه بعد أن استقر له الحكم في المدينة المقدّسة؛ أمر بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل احتلالها من الصليبيين، وكان هؤلاء قد أقدموا على تغيير الكثير من المعالم الإسلامية للمدينة، فزرعوا صليبا كبيرا مذهبا على رأس قبة الصخرة، وأمر صلاح الدين بكشفها، وكان فرسان الداوية قد بنوا مباني لهم غرب المسجد الأقصى لكي يسكنوها، وأنشأوا فيها “هُري، ومستراح، وغير ذلك” وأدخلوا قسما من هذا المسجد في أبنيتهم، فأمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، كما أمر بتطهير المسجد، والصخرة من الأقذار، والأنجاس، ثم عيّن إماما للمسجد الأقصى، وأقام فيه منبرا، ومحا ما كان فيه وفي الأبنية المجاورة من صور كان الصليبيون قد وضعوها أو رسموها، وأعاد المسيحيين الوطنيين من أهل القدس إلى مساكنهم، كما سمح لهم بشراء ما أراد الفرنج بيعه من ممتلكات، ومتاع، وأموال (“حروب القدس في التاريخ الإسلامي”، ياسين سويد، ص 108).
لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من المسلمين
وفّى صلاح الدين بوعده، فسمح لمن دفع القطيعة بالخروج، وكان قد رتب على كل باب أميرا مقدما كبيرا بحصر الخارجين، فمن دفع الفدية؛ فقد خرج. وبالرغم من تلك القطيعة الزهيدة التي فرضها صلاح الدين مقابل خروجهم من بيت المقدس، وتأمين وصولهم إلى مأمنهم، فإن كثرة كثيرة منهم لم يستطع دفعه فداء لنفسه، وأصبح بعد مضي 40 يوما أسيرا في أيدي المسلمين، ولم يسهم أحد من أغنياء الصليبيين في فداء فقرائهم، فقد خرج البطريرك هرقل من بيت المقدس بخزائنه الضخمة دون النظر إلى غيره. (“صلاح الدين والصليبيون”، عبد الله الغامدي، ص 216).
ويبدو أن ذلك كان سبب انعدام الروابط الأسرية وغيرها بين الصليبيين في ذلك الوقت، فالأسرى كانوا خليطا من أجناسٍ وشعوب أوروبية متباينة، وأجناد الغرباء المأجورين الذين رغبوا في السفر إلى الشرق تخلصا من رق الأرض السائد وقتذاك في المجتمع الأوروبي (“جيش مصر”، نظير سعداوي، ص 69).