أمد/ مقدمة:
حين لا تكون المؤسسة هي المشكلة، كثيرًا ما يُوجَّه الاتهام إلى «المؤسسة» بوصفها كيانًا فاسدًا أو عاجزًا، وكأنها كائن مستقل يفسد من تلقاء نفسه. هذا التوصيف مريح، لكنه مضلل. المؤسسات لا تُنتج الفساد تلقائيًا؛ بل البشر هم من يفعلون، وبالأخص أولئك الذين قبلوا — أو روّجوا — لجعل التملّق سياسة صعود دائمة، لا استثناءً عابرًا.

عندما يصبح التملّق آلية تعين وترقية:
حين يُكافَأ التقرب الشخصي والتملق بدل الكفاءة، تتحول السلالم الوظيفية إلى مسارات مغلقة أمام أصحاب ة، ومفتوحة أمام من يتقن قراءة مزاج السلطة. في هذه البيئة الهيكلية، لا يُعدّ الفشل حادثًا طارئًا، بل نتيجة منطقية لضعف نظام الحوكمة. فالقرارات تُتخذ لإرضاء الأعلى، لا لتحقيق الهدف، والنجاح يُقاس بدرجة الولاء لا بجودة الإنجاز.

لماذا يشترس الهجوم لاحقًا؟
نرى أحيانًا أشد المنتقدين لمؤسسة ما هم من شغلوا مواقع متقدمة فيها واترفوا من التغول على مقدراتها. المشكلة ليست في النقد ذاته، بل في شكله. حين يأتي النقد عامًا بلا تفصيل، وبلا اعتراف بالدور الشخصي، وبلا تشخيص للآليات التي سمحت بالفساد، يصبح النقد إعادة تموضع شخصي وانتهازية لا مراجعة صادقة. التعميم هنا وسيلة للاختباء داخل الجملة.
النقد البنّاء يبدأ من تسمية الأسباب: كيف تُتخذ القرارات؟ كيف تُملأ المناصب؟ ما الذي يُكافَأ فعليًا؟ ومن صمت حين كان يملك القدرة على الاعتراض؟ من دون هذا التفكيك، يبقى الهجوم خطابًا سهلًا لا يغيّر شيئًا.

الانتهازية المتنقلة:
الأخطر هو انتقال بعض هؤلاء من مؤسسة إلى أخرى — حتى المتنافسة أو المتعارضة — حاملين النهج نفسه. من بنى مسيرته على التملّق لا يملك بديلًا مهنيًا حقيقيًا، فينقل السلوك حيثما وجد سلطة أو منفعة أو مصلحة. هنا تتضح الحقيقة القاسية: المشكلة لم تكن المؤسسة، بل نمط الأشخاص الذين يرون في أي كيان سُلّمًا لا مشروعًا.

العدوى التنظيمية:
عندما يرى العاملون أن الترقية لا تأتي عبر العمل بل عبر الولاء، تحدث واحدة من ثلاث: إما تقليد السلوك نفسه، أو الانسحاب الصامت، أو الإقصاء. في ظل غياب آليات فاعلة لحماية مُبلِغي المخالفات، تخسر المؤسسة في الحالات الثلاث. الفساد هنا مُعدٍ، لأنه يعيد تعريف النجاح تعريفًا سامًا.

ما الذي يعنيه الإصلاح فعلًا؟
الإصلاح ليس شعارات ولا خطابات غاضبة أو تفريغ أحقاد دفينة. بل هو قرارات عملية تبدأ بسؤال بسيط وخطير: من نُكافئ ولماذا؟ ومن نحاسب وكيف؟
اعتماد معايير شفافة للتعيين والترقية.
فصل التقييم المهني عن العلاقات الشخصية.
توفير حماية فاعلة للكفاءات وأصحاب الرأي المخالف، لحمايتهم من العقاب غير المعلن.
الاعتراف الصريح بالأدوار السابقة عند ممارسة النقد.
هذه خطوات غير شعبية، لكنها الوحيدة القادرة على كسر الحلقة.

المتسلقون لا المؤسسات:
من الضروري قول ما يُتجنَّب قوله عادة: كثير ممن تصدّروا المشهد داخل هذه المؤسسات لم يصلوا بالكفاءة أصلًا، بل بالمحسوبية، والتملق، والحظ، والصدفة. لم يأتوا لبناء شيء، بل لملء الجيوب والبطون، والتعامل مع المؤسسة كمزرعة مؤقتة لا كمشروع عام. وجودهم في القمة لم يكن عرضًا جانبيًا للفساد، بل كان أحد أسبابه المباشرة.
هؤلاء لم يفسدوا المؤسسة فقط أثناء وجودهم، بل يواصلون الهدم بعد خروجهم منها. يفعلون ذلك عبر خطاب عام غاضب يخفي أدوارهم، وعبر استعداد دائم للانتقال إلى أي كيان آخر بالمنهج نفسه. هم لا يعترفون بأن صعودهم غير المشروع هو جزء من العطب، لأن هذا الاعتراف ينسف شرعيتهم كاملة.

حين يضعف الزرع:
لا توجد مؤسسة فاسدة بطبيعتها، بل بيئات أُنهكت حين سُمِح للمتسلقين أن يتكاثروا. كأي زرع تُرِك بلا رعاية، يضعف حين تتغذى عليه الطفيليات. المشكلة ليست في الأرض، بل في من استباحها، ثم صرخ لاحقًا متهمًا التربة بالعقم.

تحالف الهدم عند تلاقي المصالح:
المفارقة المضحكة المبكية أن بعض أبناء المؤسسة السابقين لا يترددون في التساوق مع المنافس، أو العدو، أو الكاره لوجود المؤسسة أصلًا، بل حتى مع المفسد وعدو الإصلاح. ليس لأنهم اختلفوا فجأة أيديولوجيًا، بل لأن المصالح حين تتلاقى تُسقط كل ادعاء أخلاقي. يصبح الهدف المشترك هو هدم المؤسسة ككل، لا إصلاحها، لأن الإصلاح الحقيقي يفضح أدوارهم السابقة ويُنهي قدرتهم على المناورة.
في هذا التحالف الهجين، تُستخدم لغة النقد والإصلاح كغطاء، بينما النتيجة العملية واحدة: تقويض الثقة، تعطيل العمل، وتشويه أي محاولة جادة للتصحيح. الضحية هنا ليست الإدارة العليا فقط، بل العاملون الذين لم يتورطوا، والمستفيدون من خدمات ومنتجات المؤسسة، وكل من يدفع ثمن صراع لا علاقة له بالمصلحة العامة.

الخلاصة:
المؤسسات لا تنهار لأن أسماءها فاسدة، بل لأن بعض الانتهازين مُنحوا مفاتيحها . التملّق حين يصبح وسيلة صعود، يتحول حتمًا إلى أداة تخريب. النقد البنّاء يبدأ بالاعتراف، ويستمر بالتفكيك، ولا يكتمل إلا بإقصاء المتسلقين عن مواقع القرار. من دون ذلك، سيتغير الاسم والشعار، ويبقى الخراب نفسه.

شاركها.