“الغرب غير مستعد للحرب في النيجر إذا ما استطاعت الجزائر إيجاد حل”
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنيف، د. حسني عبيدي، لـ””
الجزائر مرشحة للقيام بالوساطة بحكم جاهزيتها وقبولها من قبل جميع الأطراف
واشنطن اقتنعت بأن باريس لا يمكنها القيام بأدوار كما في السابق
قال أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنيف، د. حسني عبيدي، إن مصلحة الجزائر تقتضي تكثيف المسار الدبلوماسي مع حلفائها الأفارقة في المنطقة لحل الأزمة في النيجر دبلوماسيا، مؤكدا أن الخيار العسكري ليس حلا لأن تداعياته ستضعف الدولة وتزيد من معاناة النيجر والدول المجاورة.
بداية كيف تفسر دوافع الاهتمام الدولي بالأزمة في النيجر؟
دوافع الاهتمام الدولي بالنيجر متعددة وتختلف من دولة إلى أخرى لكن تجمعها اعتبارات سياسية، إستراتيجية واقتصادية. منذ نهاية الوجود الفرنسي في مالي والانسحاب العسكري منها، أصبحت النيجر تشكل قاعدة بديلة وأساسية بالنسبة لفرنسا وكذلك بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي جعلت من محاربة تنظيم الدولة الإسلامية ومواجهة التوغل الروسي في منطقة الساحل وإفريقيا من بين اهتماماتها الإستراتيجية.
هشاشة النيجر سياسيا واقتصاديا جعلتها في وضع ضعيف، حيث أصبحت الحلقة الأضعف في سياسة فرنسا الساحلية، لكن النيجر بدورها تأثرت بالوضع مع دول الجوار وأثر عليها الوضع المترتب على سقوط نظام القذافي من فتح للحدود والانتشار الكبير للأسلحة الفتاكة تزامنا مع بروز عدد كبير من المليشيات المسلحة في تشاد والسودان وليبيا. الأمر الذي أعطى بعدا عسكريا وأمنيا متجاوزا ما يسمى بسياسة فرنسا إفريقيا. والاهتمام بالثروات المعدنية التي تزخر بها النيجر يمر بالضرورة عبر نفوذ سياسي عسكري وأمني تحت مسميات عدة تترنح بين الحرص على المحافظة على العلاقة التقليدية ومحاربة الإرهاب.
فرنسيا وغربيا، تعتبر الوتيرة المتسارعة للانقلابات العسكرية في منطقة الساحل تهديدا لمصالحها، وقد دق ناقوس الخطر إعلانا بأن الانقلابات العسكرية المرتبطة هي بمثابة نهاية حقبة غلب عليها النفوذ الفرنسي وبداية النفوذ الجديد الذي تدفع به روسيا في إفريقيا.
كما أنها تعتبر خطرا على مصالحها حتى دولة مثل ألمانيا التي كانت تمتنع عن الدخول في تحالفات عسكرية خارج حدود أوروبا عملت منذ سنوات على أن تكون النيجر نقطة ارتكاز لسياسة خارجية جديدة في إفريقيا تبلور منذ وصول المستشار شولتز.
وإذا خسرت فرنسا النيجر فإنها تخسر مصداقيتها في إفريقيا ومصداقيتها مع الغرب في الحفاظ على مصالحه في إفريقيا وبالتالي ضياع دولة مهمة مترامية الأطراف لديها حدود مع دول تعتبر حليفة ودول أخرى تعتبر ذات أهمية إستراتيجية.
هل يمكن القول إن ما يحدث في النيجر يدخل في سياق الاستقطاب الدولي بين الشرق والغرب؟
من الصعب الحديث عن استقطاب بين الشرق والغرب في الحالة النيجرية باعتبار أن الشرق والغرب فضاءان غير متجانسين. نعم يوجد اقتسام للأدوار في المعسكرين وتحالفات ظرفية، لكن تبقى المصلحة الوطنية أولوية سيادية لكل دولة، فروسيا تريد تزعم معسكر الشرق، لكن تعثرها في أوكرانيا فتح الشهية للاعبين جدد مثل الصين وتركيا والهند ودول خليجية.
يظل التفوق عسكريا في صالح روسيا التي تريد أن يكون لها نفوذا في المنطقة الإفريقية لإضعاف الغرب وفتح جبهات جديدة تعمل من خلالها على الاستثمار في مجالات الأمن والدفاع والعديد من الثروات الطبيعية.
والصين، منذ فترة، بدأت في صمت انتهاج سياسة طموحة تجاه إفريقيا وهو نفس الاهتمام الذي تبديه تركيا ودول خليجية. فالاهتمام الغربي المتزايد والذي يعبر عن تنافس شرس بين الدول الأكثر قدرة على الاستثمار في المال وفي السلاح بما فيها فرنسا التي توظف علاقتها التاريخية، الاقتصادية والثقافية ممثلة في النخب مع مستعمراتها السابقة وعلاقاتها منذ الستينيات.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فاقتنعت بأن فرنسا بمفردها في حالة اقتصادية وعسكرية لا تسمح بممارسة الدور الذي كانت تمارسه منذ سنوات. ومع تزايد مستوى التخوف الأمريكي والغربي بالطلبات المتكررة لفرنسا لدول الخليج من أجل تمويل عمليات عسكرية فرنسية وتمويل قدرات مجموعة الساحل، فحالة الاستقطاب تتشكل بين دول متعددة لديها أهداف مختلفة وأحيانا متناقضة.
.. الدعم الغربي لفرنسا كان ضعيفا
ضعف الدعم الغربي لفرنسا في أزمتها مع السلطات الجديدة في النيجر وخاصة الولايات المتحدة التي أرسلت سفيرتها إلى نيامي، في حين أن باريس كانت تطالب بقطع العلاقات مع السلطات الجديدة حتى لا تضفي شرعية على الحكم الجديد.
سقوط نظام القذافي في ليبيا وتزايد العمليات العسكرية في ليبيا التي أفرزت انتشارا غير مسبوق للسلاح وتنامي التشكيلات المسلحة على حساب الدولة، عوامل ساهمت بقوة في خلق حالة من الصراع على النفوذ الذي يعتمد على دول بالوكالة أو على مجموعات مسلحة لا تخضع لسلطة القانون. هذا الوضع سمح للاعبين جدد احتلال مساحات داخل الدول أو استغلال أطراف داخلية تعمل كمقاولين سياسيين أو أمنيين، إنها إحدى تجليات الاستقطاب الجديد.
كيف تقيم الموقف الجزائري من الأزمة في النيجر؟
مفارقة الموقف الجزائري الأولى هو أنه جاء متأخرا ومترددا، المفارقة الثانية في هذا الموقف هو أنه في اللحظة التي استطاعت الجزائر تكييف دستورها ليتأقلم مع الظروف الدولية، وفي ظل رئيس جديد أزال الغبار عن الدبلوماسية الجزائرية التي ظلت مقعدة لمدة سنوات، يبقى هذا الموقف الدولي غير متناغم مع الخطاب الذي تسوقه الجزائر وبعيدا عن المقومات الحقيقية للبلد في مجال السياسة الخارجية ولا يترجم البتة التحديات الحقيقية التي تواجهها الدولة.
حالة التردد في الأزمة النيجيرية لا تعكس ما حققته الجزائر سابقا في مالي والذي توج باتفاق في سنة 2015 بين باماكو والجماعات المسلحة بعد خمس جولات من المفاوضات وكذا الوساطة بين الإيكواس ومالي سنة 2022 وكذلك رأينا ذلك في سنة 200 نجاح الجزائر في الخلاف الحدودي بين أثيوبيا وأرتيريا.
تشكل النيجر العمق الإستراتيجي للجزائر: حدود مشتركة تمتد إلى أكثر من 1000 كيلومتر، تعاون اقتصادي وأمني بين الدولتين وارتباط وثيق للأمن في الجزائر بما يحدث في النيجر، أضف إلى ذلك أنه يشكل انتكاسة بالنسبة للجزائر في حالة انفلات الأمور في النيجر.
يمكن قراءة الموقف الجزائري من خلال مروره بثلاث مراحل. المرحلة الأولى: مرحلة الانتظار. المرحلة الثانية: التنديد بالتدخل العسكري والمطالبة بعودة النظام الدستوري مع رفض التدخل العسكري. المرحلة الثالثة: الموقف الأخير وهو الشروع في الوساطة مع التأكيد على عودة النظام السابق ورفض التدخل العسكري بعد التهديدات المباشرة لمجموعة الإيكواس.
نحن أمام تطور في الموقف الجزائري بشكل متسارع، في حين أن هذا الموقف تأخر في الظهور وفي بلورة ملامحه إذا كانت لدينا قراءة متفائلة يمكن القول إن الجزائر أرادت أن لا تشوش على الموقف المتسرع للإيكواس الذي غلبت عليه لغة التهديد ولا يترك المجال للتفاوض، هكذا موقف جعل العسكر في النيجر أكثر تماسكا وتشددا وزرع الخلافات داخل الإيكواس.
من هنا كان حريا على الجزائر أن تبادر لتخفيف لهجة الإيكواس وللتقريب بين وجهات النظر. وهي القراءة المتشائمة التي تعتمد على فرضية أن الجزائر لم تكن لديها دراية بما يحدث وفشلت في القيام بقراءة استباقية للأحداث في النيجر.
الانقلاب العسكري وضع الجزائر أمام الأمر الواقع، وسرعة الموقف الفرنسي ودول الإيكواس حتم على الجزائر البحث عن مقاربة خاصة بها للتعامل مع النيجر مع ضرورة أخذ بعين الاعتبار مواقف كل الدول ومعرفة الوضع الداخلي، وكان من الأجدر أن تبدأ الدبلوماسية الجزائرية بعد الانقلاب مباشرة بالاتصال بالقادة الجدد والرئيس السابق لتحييد الأطراف الخارجية وحصر الخلاف بين الرئيس السابق والنظام الجديد منعا لتوسع الخلاف وتعقد الموقف.
هنا تجدر الإشارة إلى التراجع الذي تعرفه الجزائر إفريقيا بعد فقدانها لمنصب محافظ الأمن والسلم وعدم ترشحها لمنصب رئيس الاتحاد الإفريقي. هذا التراجع جعل الاتحاد الإفريقي جثة هامدة أمام أحداث الساحل وحرم الجزائر من منصة إفريقية ذات أهمية قصوى بالنسبة لها.
إلى أي مدى يمكن أن ينفذ الغرب والإيكواس تهديداتهما بالتدخل عسكريا في النيجر؟
الدول الغربية منقسمة على نفسها في خيار التدخل العسكري من دونه، هناك من هو متحمس ومن هو متحفظ ومن يرفض التدخل العسكري ومن يطالب بمواصلة المفاوضات من أجل إيجاد حل سلمي. الجميع يتفق على أن الخيار العسكري ليس حلا لأن تداعيات التدخل المسلح ستضعف الدولة وتزيد من معاناة النيجر والدول المجاورة، ناهيك عن صعوبة قوات عسكرية البقاء في النيجر في بيئة معادية تغذيها مقاومة من الداخل بدعم من دول الجوار.
لكن الغرب الذي يدعم خيار التدخل العسكري لا يريد إظهار ضعفه في النيجر خاصة أمام الطموح الكبير الذي تبديه روسيا في هذه المنطقة. لذا فإنه يمزج بين التهديد العسكري الذي تمارسه الإيكواس بالوكالة وقبول مبدأ التفاوض. فإذا استطاعت الجزائر أن تجد حلا يحفظ ماء وجه الجميع فلا أعتقد أن الغرب مستعد للدفاع عن خيار عسكري كلفته باهظة.
هل يمكن أن تفرض الأزمة في النيجر خيارات عسكرية جديدة على الجزائر؟
تطرح أزمة النيجر تحديا كبيرا يتمثل في اندفاع تجمع إقليمي الإيكواس نحو التدخل العسكري دون سند قانوني، فقط مجلس الأمن مخول له التدخل في حالة الإخلال بالسلم والأمن الدوليين من قبل دولة عضو وبإجماع أعضاء مجلس الأمن.
ولأزمة النيجر تبعات مباشرة على الأمن الوطني الجزائري في حالة التدخل عسكريا أو في حالة انسداد آفاق الحل، أما التغير المفاجئ في حالة سقوط الدولة المركزية أو النظام الجديد، فإنه يضاعف من خطر المجموعات الإرهابية الذي ما زال قائما.
تلك المجموعات لها القدرة على تسليح أفرادها وأن تصبح مصدر تهديد للحدود الجزائرية، علما أن تعاظم خطر المجموعات الإرهابية سيشكل ذريعة إضافية لدول غربية لتكثيف تواجدها العسكري تحت مسمى محاربة التنظيمات المسلحة وبالتالي إشعال وقود التنافس مع دول أخرى مثل روسيا على بعد أميال من الحدود الجزائرية، والجزائر بدورها لن تستطيع مقاومة فتح مجالها الجوي والتعاون الدولي.
من هنا تكمن أولوية انتهاج سياسة استباقية أقل تكلفة من الانتظار وتحمل نتائج التدخل العسكري، ومع وصول نظام جديد في النيجر ربما سيفتح المجال أمام تواجد قواعد عسكرية وانتشار عسكري أكثر مما كان عليه في السابق وهو ما لا ترغب فيه الجزائر. كما أن استمرار حالة عدم الاستقرار يفقد الجزائر القدرة على إدارة الأزمة وفق مصالحها.
وبالتالي ليس من مصلحة الجزائر الاكتفاء بالتلويح بالخيار العسكري دون تكثيف المسار الدبلوماسي مع حلفائها الأفارقة في المنطقة. لكن وضع قواتها في حالة تأهب قصوى على الحدود رسالة تدعم موقفها التفاوضي القائم على: ضرورة المحافظة على الدولة ودعمها من أجل تنمية شاملة، عدم إضعاف المؤسسة العسكرية أمام التحديات الإرهابية وتنامي المجموعات المسلحة، محاربة الإرهاب والتصدي لعبث ونفوذ الأطراف الخارجية. هذا هو المدخل بالنسبة للجزائر للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية إضافة إلى دول الإيكواس.
الجزائر مطالبة بتفعيل المقاربة الإفريقية ليكون الحل إفريقيا وهي مرشحة أن تكون قاطرة هذه المقاربة بدعم إفريقي.
أخيرا، ما هي السيناريوهات المتوقعة للأزمة في النيجر؟
النيجر أمام منعطف خطير وكل الاحتمالات واردة، وأسوأ الاحتمالات هو القيام بتدخل عسكري يزيد الوضع تعقيدا ويفجر النيجر ومنظمة الإيكواس مع تداعيات متفاوتة على منطقة الساحل. أما أفضل الاحتمالات هو تقليل الفترة الزمنية لعملية الانتقال السلمي وانتقال السلطة من العسكريين إلى المدنيين في ظرف أقل من الظرف الذي حدده العسكريون وإطلاق سراح الرئيس السابق محمد بازوم والإبقاء على الاتفاقيات مع الحق في إعادة التفاوض حول الاتفاقيات التي تعتبرها السلطات الجديدة بأنها مجحفة في حق النيجر.
الجزائر مرشحة للقيام بالوساطة بحكم جاهزيتها وقبولها من قبل جميع الأطراف بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي، كما أنه يمكن الاستعانة بلجنة حكماء تشرف على عملية الانتقال السلمي للسلطة وتسليم الحكم للمدنيين مع ضمان عدم ترشح رجالات النظام الجديد. وتشكل لجنة الحكماء ضمانة بالنسبة إلى السلطات الجديدة في معاملاتهم مع الغرب، كما لا بد أن يقترن هذا التنازل من قبل العسكريين برفع كل العقوبات المفروضة على النيجر والتي تخلق يوميا مصاعب جديدة للشعب النيجيري.
السيناريو الثالث يتمثل في إبقاء ضغط متزايد عسكريا واقتصاديا ودوليا على القادة الجدد لخلق حالة من التذمر الشعبي والاقتصادي ومحاولة شق صفوف الجيش للتقليل من نفوذه من خلال غض النظر عن تنامي ضربات الجماعات الإرهابية وفقدان الأمن في العاصمة وخارجها تجعل من النيجر دولة خارجة عن السيطرة مع ارتدادات خطيرة محليا وإقليميا.، فلا يمكن تدمير دولة من أجل عقاب أشخاص.