العشر الأواخر بين الأوائل والأواخر!!

إذا كان رمضان قد أشرف على الرحيل وقارب النهاية، فإن العبد الموفَّق من أدرك أن حُسن النهاية يطمس تقصير البداية، وما يدريك لعل بركة عملك في رمضان مخبأة في آخره، فإنما الأعمال بالخواتيم.
واعلم أيها الحبيب أن لله تعالى نفحات، ومواسم يتعرض فيها لعباده كي يتزودوا منها بالطاعات، ويغسلوا عن أنفسهم الآثام والخطيئات، ومن تلك المواسم والنفحات الأيام العشر الأخيرات من شهر رمضان المبارك، وقد كان السلف الصالح مسارعين سباقين في اغتنام هذه الفرص، حتى ضربوا أروع الأمثلة، وكانوا خير من يُقتدى بهم.
عندما نتأمل أحوال أسلافنا نتساءل: ما الذي كان يشغل عقولهم، وما الذي كان يداعب آمالهم، وما الذي كان يشحذ عزائمهم، وما الذي كان يسهر ليلهم، ويضني نهارهم، ويفطر أقدامهم، وما الذي كانوا يملئون به الليالي العشر، وما هي الأحوال في أيامنا هذه، علنا ندرك أننا في حاجة إلى أن نسترد عقولنا المغيبة، وأن نرجع نفوسنا اللاهية، وأن نحيي قلوبنا الغافلة.
لابد أن نتأمل تلك الأحوال، وأن نرى بعض تلك المفارقات العجيبة، فنقول: إذا ذهب من رمضان عشرون يوما يكون قد مضى الثلثان وبقي الثلث، والثلث كثير، وفيه خير وفير، وحسبنا من عشره الأخير أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي تنزل فيها الملائكة بكل أمر، أليس هذا جديرا بأن يكون لنا معه شأن آخر كما كان شأن أسلافنا، وكما هو شأن كل مؤمن حي القلب، يقظ الفكر، حريص على الخير، مقبل على الطاعة، عالم بما ينبغي لكل حال وزمان بما يناسبه؟ فكيف بنا نجعل اللهو والصفق في الأسواق والعبث في الأوقات التي جعلت للعبادات والطاعات، تا الله إنها معارضات لابد من ذكرها ولابد من إعادة القول فيها، ولابد من جعلها دائما تصب في كل سمع، وتخاطب كل عقل، وتنبه كل قلب ونفس، وإذا تأملنا لوجدنا ما كان عليه أسلافنا، حيث تغلق الأسواق، وتفتح المساجد، ويهجر النوم فلا يكون هناك نيام، وإنما يحيا الليل بالذكر والقيام، لقد كانوا رضي الله عنهم يغتسلون في كل ليلة من ليالي العشر، كان يفعل ذلك أيوب السختياني رحمه الله، وكان يفعله الإمام مالك فيما يرجح عنده أنه من ليالي القدر، فيغتسل ويتطيب ويلبس حلة لا يلبسها إلى العام القادم من شهر رمضان، وكان غيرهم يفعل مثل ذلك.
وأما حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان فذاك شأن آخر، فإذا تأملنا ما كان عليه سيد الخلق في العشر الأواخر، فإنا نجد أن العبارات والأحاديث التي رويت في هذا المقام ليس فيها كثير كلام، وليست من الأحاديث الطويلة، ولكنها أوصاف أَجمَلت وأَوجَزت صفة القلب، وحياة الروح، وفعل البدن، أوجز ذلك في كلمات عجيبة ذكرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد استأثرت بأكثر ما روي عن العشر وقيامها والاعتكاف فيها، تقول: “كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”، فهل تسمع في صفة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر ذكرا للأسواق، أو ذكرا للعبث؟ إنها جمل ثلاث: “شد مئزره” أي: شمر عن ساعد الجد، وتفرغ للأمر الجلل، وقولها: “شد مئزره”، كناية لاعتزاله نسائه، وقولها: “وأحيا ليله” كان عليه الصلاة والسلام يحييه دائما وأبدا في سائر أيامه، فما هي الإضافة في هذه العشر؟ قال أهل العلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط في الليالي الأولى من رمضان قياما بنوم، فإذا جاءت العشر الأواخر أحيا ليله من غروب شمسه إلى انبثاق الفجر، وقولها: “وأيقظ أهله”، ليجعل البيوت عامرة بالطاعة والذكر والصلاة: “رحم الله رجلا قام من الليل فأيقظ امرأته، فإن لم تستيقظ نضح عليها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها، فإن لم يستيقظ نضحت عليه الماء”.
إمام مسجد عمر بن الخطاب
بن غازي براقي