أمد/ في الآونة الأخيرة تصاعدت الحملات التي تحاول الإساءة إلى الصين وتشويه مواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، عبر ترويج مزاعم تصور بكين وكأنها منحازة لإسرائيل أو غير مكترثة بالحقوق الوطنية الفلسطينية، غير أنّ مراجعة مواقف الصين التاريخية والراهنة تكشف بوضوح أنّ هذه الادعاءات تفتقر إلى الموضوعية وتتجاهل حقائق راسخة لا يمكن القفز عنها، إذ أنّ الموقف الصيني من القضية الفلسطينية يستند إلى جذور تاريخية ورؤية مبدئية ثابتة لم تتغير رغم كل التحولات التي شهدها النظام الدولي.

منذ عقود، كانت الصين من أوائل الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية وبالدولة الفلسطينية، وأكدت دوماً دعمها لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ولم يكن هذا الموقف مجرد تصريحات عابرة، بل تجسّد في خطوات عملية وملموسة، من أبرزها تصويتها لصالح القرار 2334 في مجلس الأمن الدولي الذي يُدين الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما واصلت الصين تقديم الدعم التنموي المباشر للفلسطينيين عبر مشاريع إنسانية وبنى تحتية في الأراضي الفلسطينية، لتؤكد أن موقفها ليس سياسياً فحسب، بل هو أيضاً التزام أخلاقي وتنموي تجاه الشعب الفلسطيني.

الرئيس الصيني شي جينبينغ جدّد في أكثر من مناسبة التأكيد على وقوف بلاده إلى جانب الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، وقدّمت الصين مساعدات ملموسة في مجالات الطاقة والبنية التحتية والدعم الفني والسياسي لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية.

وخلال العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة، كان الموقف الصيني واضحاً وحاسماً؛ فقد أكدت بكين عبر وزير خارجيتها وانغ يي أنها تقف إلى جانب السلام والضمير الإنساني، داعية إلى وقف فوري للعدوان وفتح ممرات إنسانية لحماية المدنيين، كما شددت على أهمية عقد مؤتمر دولي شامل يفضي إلى حل عادل ودائم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس قرارات الشرعية الدولية وحل الدولتين، وفي نيسان/ أبريل 2024، دعمت الصين بشكل كامل انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية، على الرغم من اعتراض الولايات المتحدة في مجلس الأمن، مؤكدة أن العدالة الدولية لا يمكن أن تُكبح مهما كانت العراقيل.

ولم يقتصر الدور الصيني على المحافل الدولية، بل امتد إلى العمل المباشر على المصالحة الفلسطينية الداخلية، ففي تموز/ يوليو 2024، رعت بكين “إعلان بكين” الذي وقّعته 14 فصيلاً فلسطينياً، من بينها حركتا فتح وحماس، في خطوة وُصفت بالتاريخية لإعادة الاعتبار للوحدة الوطنية الفلسطينية، ونصّ الإعلان على تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، إضافة إلى بلورة خطة شاملة لإدارة قطاع غزة بعد الحرب، وفق مبدأ “الفلسطينيون يديرون شؤونهم بأنفسهم”، وهذه الخطوة عززت الموقف الفلسطيني الموحد في مواجهة الاحتلال وأكدت جدية بكين في دعم وحدة الشعب الفلسطيني وقضيته في أحلك الظروف.

ورغم أن الصين كقوة كبرى تربطها علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع إسرائيل، إلا أنّ هذا الواقع لا يعني بأي حال تخليها عن موقفها المبدئي تجاه فلسطين، وعلى العكس، فقد استخدمت الصين علاقاتها لتطالب علناً بوقف الاستيطان ورفض مخططات الضم والتهجير القسري بحق الفلسطينيين، ولم توظف هذه العلاقات يوماً كأداة ضغط على الفلسطينيين أو كوسيلة ابتزاز سياسي، بخلاف ما دأبت عليه بعض القوى الدولية الأخرى.

إن المزاعم التي تحاول تصوير الصين كقوة منحازة لإسرائيل أو معادية للحقوق الفلسطينية ليست سوى حملات دعائية فاقدة للمصداقية، فالمواقف الصينية الرسمية والعملية، سواء في الأمم المتحدة أو عبر الدعم التنموي والسياسي أو عبر رعاية المصالحة الفلسطينية الفلسطينية، تؤكد أن الصين تقف في صف العدالة والشرعية الدولية، وأنها لا ترى حلاً للصراع إلا عبر إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة.

إن محاولة تشويه هذا الموقف لا تعدو كونها أدوات تضليل للرأي العام، في حين أنّ الحقائق على الأرض تثبت أن الصين باتت من أبرز القوى العالمية التي تسعى بجدية لتحقيق سلام عادل وشامل في منطقتنا.

وتكتسب هذه السياسة الصينية أهمية خاصة إذا ما قورنت بالممارسات الغربية التي تتبنى ازدواجية المعايير في التعاطي مع قضايا المنطقة، فالولايات المتحدة التي تدّعي الدفاع عن “الديمقراطية وحقوق الإنسان”، هي نفسها التي وفّرت الغطاء السياسي والعسكري للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، واستخدمت حق النقض “الفيتو” عشرات المرات لمنع صدور قرارات دولية تدين الاحتلال أو تدعو إلى إنهائه، والاتحاد الأوروبي بدوره ما زال يراوح مكانه بين التصريحات الرمزية والمواقف الملتبسة التي تتجنب ممارسة أي ضغط فعلي على إسرائيل، بل إن الكثير من دوله يواصل تزويد الاحتلال بالأسلحة والتقنيات الأمنية، ما يفاقم معاناة الفلسطينيين.

الموقف الصيني في الشرق الأوسط، بما فيه من وضوح وثبات، لا يمكن عزله عن الرؤية الجيوسياسية الأوسع لبكين، والتي تقوم على تعزيز نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدلاً وتوازناً، فالصين تدرك أن استمرار الأزمات المزمنة في منطقتنا يهدد الأمن والاستقرار العالميين، ولذلك فهي تدفع باتجاه تسويات سياسية بعيدة عن الهيمنة والتدخل العسكري، ومن هنا جاءت مبادراتها الأخيرة، سواء عبر طرح “مبادرة التنمية العالمية” أو “مبادرة الأمن العالمي”، التي تؤكد أن السلام العادل لا يمكن أن يتحقق إلا بتسوية القضايا التاريخية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

كما أن الصين عززت حضورها الاقتصادي في المنطقة عبر “مبادرة الحزام والطريق”، التي لم تقتصر على مشاريع البنية التحتية والتجارة فحسب، بل شملت برامج تنموية مباشرة تدعم صمود الشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني، وهذا البعد الاقتصادي يكتسب وزناً إضافياً لأنه يوفر بدائل حقيقية أمام دول المنطقة للتحرر من التبعية الاقتصادية التي فرضتها المنظومة الغربية لعقود، وبذلك يتكامل الدور السياسي والدبلوماسي للصين مع دور اقتصادي متنامٍ يعزز استقلالية القرار الوطني لدول الشرق الأوسط.

إن إدراك هذه الحقائق ومواجهتها بالحجة والبرهان هو السبيل الأنجع لإفشال الدعايات التي تهدف إلى تقويض الثقة بين الشعب الفلسطيني وأصدقائه الحقيقيين في العالم، فالصين أثبتت أنها تقف إلى جانب الشعوب المظلومة وتسعى إلى تعزيز الأمن والاستقرار العالمي بعيداً عن الهيمنة أو التدخل في شؤون الآخرين، ولعلّ هذا ما يفسّر الهجمة الإعلامية المنظمة عليها، إذ إنّ مواقفها المتوازنة والداعمة للحقوق الفلسطينية تتعارض مع المشاريع الغربية الساعية إلى تكريس التفوق الإسرائيلي والهيمنة على المنطقة.

إننا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى تعزيز الشراكات مع الدول والقوى التي تضع مبادئ العدالة والشرعية الدولية فوق الحسابات الضيقة، والصين، بما تملكه من مكانة عالمية، تشكل ركيزة أساسية في هذا المسار، ليس فقط كحليف سياسي وداعم للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، بل كقوة فاعلة تسعى إلى إعادة الاعتبار لمفهوم السلام العادل والشامل القائم على إنهاء الاحتلال ورفع الظلم التاريخي عن شعب فلسطين.

إن حملات التشويه والدعاية المضللة لن تغيّر هذه الحقائق، ولن تنال من الموقف الصيني الثابت، الذي بات اليوم أحد الأعمدة القليلة المتبقية في عالم مضطرب ما زال يشهد ازدواجية المعايير على نحو فاضح.

شاركها.