أمد/ شاركت منذ أسبوع في مؤتمر دولي بالصين نظمته جامعة تشانجوا ومركز الشؤون الخارجية للصين الشعبية، وشارك في بلورته مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية، وحضره أكثر من 15 مسؤولاً دولياً سابقاً على مستوى رؤساء الوزراء ووزراء الخارجية السابقين، إضافة إلى مشاركة صينية رفيعة المستوى على رأسها نائب رئيس الحزب الشيوعي، وتناول المؤتمر كثيراً من القضايا الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والتكنولوجية بصورة منهجية وجذابة.
كانت تجربة ثرية ومفيدة لفهم الصين والاستماع إلى أصوات الآخرين، وإضفاء صوت ورواية عربية على النقاش في بعض الجلسات، وخرجت من المؤتمر بملاحظات عدة، تحتاج إلى استرسال وتناول أوسع، وإنما على رأسها مجموعة من الملاحظات أرى من الأهمية تسجيلها والتنويه بها، من دون الدخول في التفاصيل التي تحتاج إلى عرض متطور ومعالجة مستقلة.
أولى الملاحظات كانت أن دونالد ترامب كان الغائب الحاضر في معظم الجلسات والمداخلات، مع تركيز كبير على شخصيته حتى قبل السياسات الأميركية، على رغم أنه لا يمكن الفصل بينهما، إذ إن ثقل ووزن الولايات المتحدة هما الرادع والحافز الرئيس للاهتمام الدولي بترمب، وأعتقد بأن الرئيس الأميركي نجح في فرض شخصيته وما يرتبط بها من تساؤلات وتقلبات على الحسابات الدولية، وفقاً لمنهجية سبق وتباهى بها في كتابه عن أسلوبه التفاوضي، وهو بذلك أضاف عنصراً شخصياً مهماً في حسابات الدول، بما يتجاوز مواقف المؤسسات الأميركية المفترض أن تكون لها مواقف مستقلة وموضوعية في كثير من الأحيان، قبل أن يعين الرئيس الأميركي قيادات لها صفتهم الأساسية الولاء الشخصي الفريد له شخصياً، وكان لافتاً للغاية الاهتمام سلباً وإيجاباً بالـ Trumpism على رغم أن عدد المشاركين الأميركيين كان محدوداً للغاية وبصورة لافتة للنظر.
والملاحظة الثانية البارزة في المؤتمر كانت تنامي الثقة الصينية بالتعامل مع ترامب والولايات المتحدة والعالم، ومن أهم ملاحظاتهم أن المواقف الأميركية تجاه الصين خلال ولاية ترمب الأولى وأثناء تولي بايدن الرئاسة كان لها توجه سلبي من الحزبين، فاعتُبرت الصين أهم تحدٍّ استراتيجي للمصالح الأميركية وخطراً على أمنها القومي، وهي مجالات يصعب التوصل إلى حلول وسط في شأنها، أما في الولاية الجديدة لترمب فالاهتمام الرئيس يقع على الجانب التجاري والاقتصادي الذي يوفر فرصاً أوسع للتفاهم. وأكد المسؤولون الصينيون أنهم استعدوا لهذه المعادلة جيداً، لذا لن يتضرروا كثيراً من حرب الجمارك والضرائب.
واستطرد المسؤولون الصينيون أن ممارسات إدارة ترامب الثانية بدأت بعراك سياسي والتهديدات التجارية وفرض الجمارك، ثم انتقلت إلى مرحلة الحوار حول المواضيع الاقتصادية والتجارية خلال اجتماعات المسؤولين الأميركيين والصينيين في جنيف ولندن، ويجري الآن التمهيد للقاء قمة يتحمس ترمب لعقده في بكين استجابة لدعوة الرئيس الصيني شي جين بينغ.
وهناك شعور صيني عام بأن المحادثات الاقتصادية صعبة، إنما تتطور بإيجابية، ويلفتون النظر إلى أن المتخصصين في قضايا الأمن القومي في البلدين لم يجتمعا خلال الولاية الجديدة، مما يترك فجوة كبيرة في العلاقات، ويطالبون ترمب خلال زيارته بتأكيد تأييده لسياسة الصين الواحدة والقبول باستكمال وحدة الأراضي الصينية بالطرق السلمية والإعلان عن اعتبار الصين أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وهي طلبات طموحة تعكس الثقة الصينية بالنسبة إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة، وتحقيقاً لذلك، من الاقتراحات الصينية المطروحة أيضاً تنشيط الاتصالات بين مؤسسات الأمن القومي في البلدين، إضافة إلى التوسع في الاتصالات والعلاقات الثقافية ومراكز البحث والمنظمات غير الحكومية والجامعات والطلبة.
أما الملاحظة المهمة الثالثة التي تتطلب اهتماماً خاصاً من العالم العربي، فكانت أن عامة الحضور من الصينيين والمؤيدين رسمياً للسلام العربي الإسرائيلي، لم يكونوا على دراية كافية بعمق الخلاف الفلسطيني الإسرائيلي وخطورة التوجهات الإسرائيلية عامة، خصوصاً من الحكومة الحالية، على رغم موقف الصين المؤيد للسلام العربي الإسرائيلي الشامل، بما يعني إنهاء الاحتلال والسماح للفلسطينيين بتقرير مصيرهم في دولة مستقلة.
واستلفت نظري تكرار إشارة بعض الأكاديميين الصينيين إلى تجارب مجموعة “آسيان” وحوارات دول تلك المجموعة لحل النزاعات بالطرق السلمية والحوار، مما جعلني أوضح بجلاء وصراحة تامة أن العالم العربي قدم مبادرات سلام عدة عبر السنين معظمها من مصر والسعودية، في حين لم تقدم إسرائيل مبادرة واحدة، بل لم تتجاوب مع المبادرات العربية، بعد أول اتفاق سلام أو مع قرارات القمة العربية لعام 2002 في بيروت.
وأشرتُ إلى أن العالم العربي تعامل بإيجابية في محادثات عدة حول الأمن الإقليمي، منذ المفاوضات متعددة الأطراف المنبثقة من “مؤتمر مدريد للسلام” في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وإنني شخصياً أسهمت عبر الأعوام في كتابات واقتراحات عدة حول مفاهيم ومتطلبات إنشاء منظمة أمن إقليمي في الشرق الأوسط، وعليه فهناك خبرات وأفكار عربية متعددة ومتنوعة حول هذا الموضوع.
وإنما أوضحت أيضاً وبصراحة شديدة أن من يدعو إلى تطبيق تجربة مجموعة “آسيان” في الشرق الأوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين واهم وغير مقدر لجسامة الموقف الإسرائيلي لأن دول “آسيان” تقرّ بضرورة وأهمية التعايش معاً، في حين أن الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية ترفض الهوية الفلسطينية كاملة، وأوضح مسؤولوها بجلاء أن الخيارات الفلسطينية بين الهجرة ومواجهة إعصار مثلما شهدنا في غزة، أو الاستمرار تحت السيادة الإسرائيلية كمواطنين من دون حقوق سياسية، وهي مواقف تعني أن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني وجودي ومحصلته صفرية، تجعل أي نقاش حول منظومة أمن إقليمي غير مجدية، بالغ الخطورة.
ومن المؤشرات المكررة على تأكيد ذلك، مطالبة بعضهم بضم الضفة الغربية إلى نهر الأردن، وما يتردد عن بلورة خطط لفرض سيادة إسرائيلية على معظم الضفة والقطاع، وبلورة منظومة أمنية شرق أوسطية من المنظور الإسرائيلي ستكون على حساب مصلحة الفلسطينيين والأمن القومي العربي، مما يستدعي وقفة عربية قوية ورفضاً واضحاً وقاطعاً.
عن اندبندنت عربية