الشّهيد في عقيدتنا.. حتى لا نخطئ
إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع ونحن نرى إخواننا يُقتلون بغير وجه حق في غزة، تحت سمع العالم وبصره، مع صمت مريب من الدول العربية والإسلامية، التي تخلت عنهم وخذلتهم وخانتهم، وما هذا الصمت منهم والخذلان إلا تحالف مع الصهاينة سرا، وتشجيع لهم علنا ليبلغوا في جريمتهم إلى أقصى مدى، عسى أن يتحقق حلمهم في القضاء على المقاومة وحماس تحديدا، ولكن هيهات هيهات، خاب المسعى وشاهت الوجوه، وسيفضحون قريبا.
إنه ما من إنسان بقيت فيه ذرة من إنسانية إلا وهو يتألم لما يعانيه أهل غزة الصامدون، وتتقطع نياط قلبه حزنا على شهدائهم الأبرياء الأبرار، فهول الإبادة تجاوز كل الحدود، ومساندة دول العالم بما فيها الدول العربية والإسلامية للصهاينة يزيد الحزن حزنا والهم غما.
وأمام عجز أغلب المسلمين عن تقديم مساعدات كافية لأهل غزة ودعم مباشر للمقاومة، وأمام توارد الصور والتسجيلات المفزعة للمحرقة، وتعالي أصوات الاستغاثة دون مجيب ولا مغيث، زاغت قلوب كثير من المسلمين، وبلغت قلوبهم الحناجر، وربما تزلزلت ثقتهم ويقينهم في الله تعالى ونصره، وربما نتج عن تعاطفهم الإنساني مع إخواننا والحزن الشديد بسبب المقتلة التي يتعرضون لها غَبَشٌ في الفهم وضبابية في الرؤية، وربما غالطوا أنفسهم أو غالطتهم الأحداث أو غالطتهم وسائل الإعلام فتحول تعاطفهم الواجب إلى موقف سلبي من الشهادة وتزايد عدد الشهداء!؛ لأن الإنسان ضعيف والمصيبة مفزعة: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}.
هذا الوضع يستوجب على المسلم الرجوع للقرآن والسنة حتى يضع الأمور في نصابها، وعند ذاك سيستبين حقيقة الأمر ويستجلي مآلاته، فنحن المسلمين نعتقد جازمين أن الحياة الحقة هي الحياة الأخرى، وأن هذه الحياة الدنيا إن هي إلا امتحان قصير مهما طال: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}، وخير ما في هذه الدنيا طاعة تدخر، وحسن خاتمة تنال، هذه عقيدتنا وهذا ديننا. وأعظم عمل يعمله المؤمن فيها هو الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها» رواه البخاري ومسلم. وأعظم خاتمة ينالها المؤمن هي الموت شهيدا في سبيل الله، هذه أسمى أماني المسلم الحق. وما هو بموت بل الحياة الحقة. ألم يقل الله جل شأنه: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين}، فكيف يكون موقف المؤمن من الشهداء بعد هذه الآية؟.
إن المؤمن الصادق يؤمن إيمانا جازما لا يخالطه ريب ولا يمازجه شك أن الشهداء أحياء، شهداء غزة، وشهداء الجزائر، وشهداء المسلمين في كل زمان ومكان، وينبه من يراهم قد ماتوا وفاتهم التنعم بالدنيا وزينتها أنه غافل يحتاج تنبيها أو جاهل يحتاج تعليما!، ويذكر نفسه وغيره بقول الحق سبحانه: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}، ومن الهام جدا أن يقرأ المسلم هذه الآية منتبها لسايقها: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين * ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون * ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}، إن من الواضح أن الآية جاءت في سياق كلام الله تعالى على الابتلاء، واللافت أن الآية السابقة لها خُتمت بـ: {إن الله مع الصابرين}، والآية بعدها ختمت بــ: {وبشر الصابرين}، وكأن القرآن العظيم يقول لنا: إن من يبتليهم الله تعالى ويتخذ منهم شهداء بين معية الله تعالى وتبشيره، وكفى بهذا منزلة!، وكفى بهذا كرامة!.
إن الشهادة اصطفاء من الله تعالى، فلا حزن على شهدائنا في غزة، بل غيرهم أحق بأن يُحزن عليه!، وكيف يحزن مؤمن صادق على الشهيد وهو يعلم مكانته وكرامته على الله تعالى، ومن جهل ذلك فلا بأس أن نذكّره بشيء من ذلك: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يموت له عند الله خير، يسره أن يرجع إلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد؛ لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى» رواه البخاري. وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة» رواه البخاري ومسلم. أتتصور ذلك؟!، شهداء غزة يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا؛ ليقتلوا عشر مرات رغم بشاعة طريقة قتلهم؛ لينالوا الكرامة التي وجدوها عند الله تعالى. والله لإنها أعظم أمنية!، كيف لا وهي أمنية نبوية وأنعم وأكرم!، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل» رواه البخاري، وما يتمناه النبي صلى الله عليه وسلم لا يناله إلا من اصطفاه الله واختاره وأكرمه، ومن حاله هكذا لن تذهب دماؤه سدى ولا هدرا أبدا، وسنرى جميعا الآثار الاستراتيجية لطوفان الأقصى، ودماء شهدا غزة. فسلام على تلك الأرواح البريئة، سلام على تلك النفوس الطاهرة، ولا نامت أعين الجبناء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك” رواه البخاري.
إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة