أمد/ يتجلّى في شخصية الشيخ القسام بعدٌ جوهري ثابت ، شكّل سمة بارزة في مسيرة الراحل وميّزه عن سائر القادة الثوريين في الأمة العربية المعاصرة ، ولعلّ إقدامه في زمن الانحسار كان الدافع العميق الذي أهّله لتصدّر المشهد العام عبر قرن من الزمن ، لقد بقي الشيخ عز الدين القسّام ، في الذاكرة الفلسطينية ، أيقونةً للحنين ومصدراً للفخر والإعتزاز ، بما مثّله من قيم النضال والإباء ” حنا، 2002 ، عز الدين القسام : الثورة والفكرة ” ، وعلى الرغم من أن الفكر الإنساني ، عبر تاريخه الطويل ، أفرز نخبة من المفكرين الذين إستطاعوا تفسير طبيعة الإنسان ومجتمعاته المتنوّعة ، فإن معظمهم أخفق في إحداث تحوّل جوهري في الميدان الأخلاقي ، وهو الميدان الذي يشكّل ، في نظر الحكماء والفلاسفة ، الركيزة الأسمى لبناء الحضارات واستمرارها ” أرسطو ، الأخلاق النيقوماخيةً ” ، بل إن إخفاق المشروع التربوي على مرّ العصور في صياغة إنسان أخلاقي دفع بعض الباحثين إلى إقتراح حلول بديلة ، تراوحت بين التدخّل الجراحي واستعمال تقنيات طبية متقدّمة ، بغية تعزيز الثقة بالنفس وترسيخ روح التعاون ” فروم، 1956 ، فن الحب ” .
ولم ينبع هذا التوجّه من فراغ ؛ فقد لجأ العلماء إلى العقاقير وإلى التحفيز الكهربائي للدماغ ، سعياً لاستعادة الفطرة السليمة ، بعد أن أماط علم النفس اللثام عن العوامل التىّ تؤدّي إلى تدهور الحالة النفسية واستنزاف الطاقة الإنسانية ” فرويد ، 1920 ، ما وراء مبدأ اللذة ” ، ومن المفارقات اللافتة أن الإنسان ، رغم قدرته على التعلّق بأي شكل من أشكال الإدمان ، يظلّ أقلّ استعداداً لتحمّل عبء الأخلاق ، لما تحمله من تكاليف ومسؤوليات ، حتى وإن تظاهر بالالتزام بها ، وعليه ، فإنّ ما عرفته البشرية من صور التمييز العنصري ، والتعصّب العرقي أو القومي ، والتصنيفات الجائرة ، إنما يعود في جذره العميق إلى تراجع المنظومة الأخلاقية أو بالأحرى إلى عدم قدرته على اكتسابها ، وهو التراجع الذي نبّه إليه مفكّرون كبار منذ قرون ، وعلى رأسهم ابن خلدون في المقدمة حين ربط فساد العمران بانحطاط الأخلاق ” ابن خلدون” …
من منظور الدراسات ما بعد الكولونيالية ، يشكل الخطاب السياسي أحد الأدوات الجوهرية في تكريس الهيمنة الاستعمارية وإعادة إنتاج علاقات القوة بين المستعمِر والمستعمَر ” سعيد ، 1997 ” ، وفي الحالة الفلسطينية ، يتجسد ذلك في خطاب قادة إسرائيليين ينتمون إلى تيارات قومية متطرفة ، من أبرزهم ابن غفير ، الذي تبنّى مواقف وتصريحات تتجاوز الممارسات العسكرية الميدانية إلى استهداف الرموز التاريخية والثقافية الفلسطينيةُ ، تأتي دعوة بن غفير لهدم قبر الشيخ عز الدين القسام ضمن سياق أوسع من سياسات الإلغاء الثقافي والتاريخي ، التىّ تشكّل جزءاً لا يتجزأ من مشروع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي ، وتُظهر دراسة الخطاب السياسي في السياق الاستعماري أن الوعي الجمعي لدى الفاعلين السياسيين قد ينقسم إلى نمطين : وعي تنموي يرتقي بصاحبه إلى مستويات الحكمة ، ووعي هدّام يقود إلى الإنحدار الأخلاقي ونشر الكراهية والعنصرية ” سعيد، 1997 ، وفي الحالة الإسرائيلية ، يبرز وزير الأمن القومي وعضو الكنيست إيتمار بن غفير كنموذج واضح للوعي الشاذ ، بما يحمله من مواقف وتصريحات تمثل امتداداً لسياسات الاستعمار الاستيطاني في فلسطين ، فابن غفير ، المعروف بانتمائه إلى التيار الكهاني المتطرف ، أطلق مؤخراً تصريحات وقبل ذلك مثيرة ، وتحديداً في ما يخص القائد الثوري الذي لعب دوراً محورياً في مقاومة الاستعمار الفرنسي في سوريا عام 1925 ، قبل أن ينتقل إلى فلسطين لقيادة النضال ضد الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني حتى استشهاده عام 1935 ” نصار ، 2007 ” ، ويقع قبر القسام في بلدة تُعرف اليوم باسم “نيشر” قرب حيفا ، وكانت تُسمّى سابقاً “بلدة الشيخ” (الخالدي، 1992).
تأتي دعوة بن غفير في سياق مشروع متكامل لمحو الذاكرة الجمعية الفلسطينية ، لا يقتصر على مصادرة الأرض وتهويد المقدسات ، بل يمتد إلى إستهداف الرموز التاريخية للمقاومة ، هذا النهج يتوافق مع ما تصفه منظمة العفو الدولية (2022) بسياسات “الأبارتهايد” القائمة على الإبادة الجماعية ، والتجويع ، والحصار ، والاعتقال التعسفي ، والتعذيب ، وفي خطابه أمام الكنيست ، صرّح بن غفير بأنه “عازم على ملاحقة الإرهابيين حتى في قبورهم”، في إشارة مباشرة إلى القسام ، ويعكس هذا التصريح منطقاً استعمارياً يرى أن الفلسطيني لا يملك حق المقاومة ، بينما يُمنح المحتل الشرعية الكاملة لممارسة الجرائم والتهجير القسري ” سعيد، 1997 ” ، بل يتزامن هذا الخطاب مع تسريبات صحفية حول مباحثات بين الاسرائيليين والجنرال الليبي خليفة حفتر لنقل مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى ليبيا ، في محاولة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وقطع الصلة بينهم وبين تاريخهم ” هآرتس، 2026 ” ، هذا يتسق مع نظرية أن محو الذاكرة الجمعية يتطلب تهجير السكان الأصليين بالكامل ، إذ إن بقاءهم يحافظ على استمرارية الرواية التاريخية ” ماسون، 2010 ” .
يتجاهل بن غفير أن الشيخ عز الدين القسام لم يكن فلسطينياً بالميلاد ، إذ وُلد في جبلة بسوريا عام 1882، لكنه آمن كغالبية الأمة الإسلامية بأن فلسطين وقف إسلامي ” ياسين، 2005 ” ، هذا الموقف يجد له نظيراً في سلوكيات شخصيات إسلامية بارزة مثل الزعيم الهندي محمد علي جوهر ، الذي زار القدس وموّل مؤسساتها ، ودُفن في المقبرة الخاتونية عام 1931 ” الزركلي، 2002 ” ، وهنا يطرح سؤال أكاديمي مشروع : هل يمتد المنطق ذاته لدى بن غفير للمطالبة بهدم قبور شخصيات إسلامية غير فلسطينية ارتبطت بالمدينة المقدسة؟ ، فتصريحات بن غفير ليست معزولة عن السياق التاريخي للاستعمار الاستيطاني في فلسطين ، بل تمثل حلقة في مشروع أيديولوجي يهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا والذاكرة والهوية الفلسطينية ، هذا المشروع يعتمد على استراتيجيات الإبادة المادية والرمزية ، حيث يصبح محو الرموز جزءاً من محو التاريخ نفسه …
خيارات الإنسان تتراوح بين ما يُسجَّل في التاريخ وما يُنسى ، ويعتمد الشخص المتوازن في قراراته على تقييمات دقيقة وبديهية ، ومن هذا المنظور ، يصعب تصوّر مسؤول حكومي يدعو إلى ملاحقة الأموات في قبورهم ، إذ تحمل مثل هذه الدعوات أبعاداً أخلاقية خطيرة قد تصل إلى محاولات مسح رموز تاريخية مهمة ، كما في قبر صلاح الدين الأيوبي ” ابن شداد، ” 1964) ، وهذا الخلل الأخلاقي يمتد أحياناً ليشمل الإبادة والتجويع ومحو الذاكرة الجماعية ، وصولاً إلى إستهداف الأحياء لأغراض سياسية ، كما وثقت التقارير الأممية في النزاعات الحديثة ” مجلس حقوق الإنسان، 2009 ” ، وعلى النقيض ، تظهر التجارب التاريخية قدرة الشعوب على مقاومة الظلم رغم عدم توازن القوى ، فعمر المختار ، قائد الثورة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي ، أدرك فجوة العتاد العسكري ، لكنه حشد الشعب الليبي لتحقيق مقاومة حقيقية ، رغم التضحيات الكبيرة التي بلغت نصف تعداد السكان آنذاك (العنيزي، 1970؛ البرغوثي، 1985).
كما حاولت فرنسا إعادة كتابة تاريخ الجزائر ، إلا أن الرموز الوطنية المقاومة بقيت حية ، مثل الأمير عبد القادر الجزائري ، لتؤكد صمود الهوية الوطنية أمام محاولات الطمس ” سعد الله، 1980؛ شريف، 1995 ” ، فتجربة الإحتلال الصهيوني تظهر استمرار هذا النمط ، إذ لم تمس محاولات تغيير أسماء المدن الرئيسية مثل حيفا وعكا وطبريا جوهر الهوية التاريخية ، مما يعكس إفلاساً أخلاقياً وعجزاً عن التعايش مع الأموات ، فكيف بالأحياء؟ وتعتمد الأيديولوجية الصهيونية على التهجير والإلغاء لمواجهة ما تعتبره تهديداً وجودياً لسرديتها ” مجلس حقوق الإنسان، 2009 ” .
تكشف هذه الأمثلة أن التوازن الأخلاقي والتاريخي هو ما يمنح المجتمعات القدرة على الصمود ، وأن محاولات الطمس والإلغاء لا تُجدي أمام إرادة الشعوب وتمسكها بذاكرتها وهويتها ، ما يجعل الحفاظ على التوازن بين السلطة والفكر والمجتمع ضرورة حيوية …
ما يلفت النظر في حكاية ابن غفير والشيخ القسام هو أن الأخير ، رغم مرور أكثر من 90 عاماً على استشهاده ، لا يُعتبر حيّاً للفلسطينيين والعرب فحسب ، بل يظل حاضراً في وعي الإسرائيليين أيضاً ، حيث يشكل مصدر قلق وإزعاج لهم ، هذه الظاهرة تشير إلى أن تأثير الشخصيات التاريخية لا تقتصر على من كانوا معاصرين لهم ، بل تمتد إلى الأجيال التالية ، ويؤثر امثال القسام في سياقات سياسية واجتماعية مختلفة (AbuLughod, 2000) ، وتظهر في هذا السياق قوة الذاكرة الشعبية ، التىّ لا تقتصر على الأدب والتاريخ الرسميين ، بل تتجلى أيضاً في الأناشيد والزواجل والأغاني الشعبية ، التىّ توثق التجارب النضالية والمقاومة بطريقة مباشرة وحيّة ” Kanafani, 1973 ” ، فالذاكرة الشعبية تعمل كوسيط بين الماضي والحاضر ، وتساهم في تعزيز الهوية الوطنية وإدامة روح المقاومة ، وهو ما يغيب عن فهم البعض ، بمن فيهم الشخصيات السياسية المعاصرة التىّ تتعامل مع التاريخ بعين سطحية أو سياسية ، يمثل هذا الفارق بين قوة السلاح المادي وقدرة فكرة متجذرة في ضمير الشعب ، والتىّ تنمو نتيجة منظومة أخلاقية واجتماعية متينة ، جوهر الصراع الفلسطيني المستمر ، فالشعب الفلسطيني ، منذ أكثر من مائة عام ، بنى أسس نضاله على مزيج من الوعي التاريخي كدين ، والثقافة الشعبية ، والأخلاقيات النضالية ، وهو ما يميز مقاومته عن مجرد مواجهة عسكرية أو سياسية ” Shlaim, 2000 ” .
توضح حكاية ابن غفير والشيخ القسام أن تأثير الشخصيات التاريخية يتجاوز حدود الزمن والجغرافيا ، ليشمل الوعي الشعبي والمعرفة الجماعية ، سواء عند الفلسطينيين أو عند خصومهم ، إن قوة الذاكرة الشعبية ، التىّ تتجسد في الأدب ، وأشكال الثقافة المتنوعة ، تُظهر أن المقاومة ليست مجرد مواجهة مادية ، بل هي نتاج منظومة أخلاقية وثقافية متجذرة في المجتمع ، ومن هذا المنطلق ، يصبح فهم التاريخ الشعبي وأشكال المقاومة الثقافية والاجتماعية أمراً أساسياً لتحليل الصراع الفلسطينيالإسرائيلي ، حيث تتقاطع الذاكرة ، والهوية ، والنضال في إطار متماسك يعكس صمود الشعب الفلسطيني على مدار أكثر من قرن في مواجهة كيان دموي تَشَكَّل ونما كصابة في إطار حركة استعماريّة منظَّمة …