أمد/ عبر التاريخ، اعتدنا أن نرى قادة الحركات والجيش والجماعات المسلحة في مقدمة الصفوف أو قريبين منها، يشاركون مقاتليهم مشهد المواجهة. غير أن الحروب الحديثة، بتعقيداتها وتفاوت موازين القوى فيها، تجعل هذا المشهد أقل وضوحًا.

وفي الحالة الفلسطينية، تبدو معركة حماس ضد الجيش الإسرائيلي مثالًا صارخًا على هذا التحوّل، إذ قادت الحركة عملية 7 أكتوبر بينما بقي قادتها بعيدين عن خطوط المواجهة المباشرة، في وقت دفع فيه مقاتلوها إلى مواجهة جيش يمتلك تفوقًا عسكريًا هائلًا ودعمًا دوليًا واسعًا.

ومع امتداد الحرب شهورًا طويلة، وتراجع مصادر الإمداد، وتزايد الخسائر البشرية، تبرز أسئلة حول قدرة الحركة على الحفاظ على تماسكها الداخلي، وحول الروح المعنوية لمقاتليها الذين يواجهون ظروفًا شديدة الصعوبة، خصوصًا بعد تكرار مشاهد تشير إلى أن بعض المجموعات تُركت دون غطاء أو دعم كافٍ في جبهات القتال.

من خلال متابعة المشاهد المتلاحقة في غزة، يتضح أن حماس باتت تعيش معادلة معقدة بين الحفاظ على كيانها السياسي من جهة، ومحاولة إدارة معركة غير متكافئة مع جيش الاحتلال من جهة أخرى. فالحركة تدرك أن إسرائيل تسعى إلى السيطرة الكاملة على القطاع، وتفكيك بنيتها العسكرية، وتجفيف مصادر تمويلها، ما يجعل قراراتها تتأرجح بين الاعتبارات السياسية ومتطلبات الميدان.

هذا الوضع أفرز ارتباكًا واضحًا في بعض القرارات العملياتية، وظهر ذلك جليًا في حادثة المجموعة المحاصرة داخل أحد الأنفاق شرق رفح، والتي تسلّط الضوء على مدى الضغط الذي تتعرض له الحركة، وعجزها في بعض الأحيان عن توفير الحماية لعناصرها أو إجلائهم من مناطق خطر.

لطالما كانت الأنفاق جزءًا مركزيًا في عقيدة حماس القتالية، إذ شكّلت مساحة للحركة والمناورة والاختفاء وإدامة خطوط الاتصال. لكن الحرب الحالية غيّرت قواعد اللعبة؛ فمع تضييق الخناق على الأنفاق، ونسف أجزاء واسعة منها، وانقطاع وسائل الاتصال عن مجموعات مقاتلة في الداخل، لم تعد هذه الشبكة تقدّم المزايا السابقة نفسها.

الحادثة الأخيرة التي قُتل فيها عناصر من حماس داخل نفق تمت محاصرته أمنيًا شرق رفح، بعد التعرف عليهم ومصادرة أسلحة كانوا يحملونها، كشفت جانبًا من المأزق الذي يعيشه المقاتلون تحت الأرض. فهي تشير من جهة إلى قسوة الظروف التي يعملون فيها، ومن جهة أخرى إلى مدى العجز التنظيمي الذي يجعل بعض المجموعات دون غطاء أو إسناد.

وتبرز هنا أسئلة جوهرية حول طبيعة العلاقة بين القيادة والمقاتلين: هل تمتلك الحركة القدرة الفعلية على حماية من يقفون في الصفوف الأمامية؟ وهل تمثل هذه الحوادث خللًا مرحليًا فرضته ظروف الحرب، أم أنها تكشف فجوة أعمق تراكمت مع الزمن؟

مشاهد المقاتلين المحاصرين وهم يحاولون الخروج بأي طريقة تؤكد هشاشة أي تنظيم يعتمد على العمل السري في بنية تحت الأرض، خاصة حين تُدمّر مسالك الأنفاق وتُقطع الاتصالات. في مثل هذه الظروف، لا يفقد المقاتل القدرة على القتال فقط، بل يتآكل توازنه النفسي، مهما كان مستوى تدريبه أو صلابته.

ومسؤولية القيادة، في أي تنظيم مسلح، لا تتوقف عند حدود التخطيط العملياتي أو إدارة خطوط الإمداد، بل تمتد إلى حماية المقاتلين والحفاظ على كرامتهم ومنحهم الأمل والاطمئنان في أحلك الظروف. ومع ذلك، قد تكون بعض هذه المشاهد نتيجة لتداعيات الحرب نفسها؛ فالضغط المتواصل قد يسبب انهيارًا في البنى التنظيمية، وتعذّرًا حقيقيًا في الوصول إلى مجموعات محاصرة، وانقطاعًا فعليًا للاتصال والإنقاذ.

لكن الإشكال الأخلاقي يظهر حين تُترك المجموعات لمصيرها دون محاولة واضحة أو معلنة لنجدة عناصرها، مما يفتح الباب أمام اتهامات بالتقصير وفقدان البعد الإنساني في إدارة الصراع.

وعبر السنوات، كانت قوة الفصائل المسلحة تعتمد أساسًا على تماسك علاقتها بمقاتليها؛ فإذا شعر المقاتل بأن قيادته لا تسانده، أو أن حياته مجرد رقم في معادلة سياسية، يبدأ التفكك الداخلي ويتسلل الشك إلى الصفوف، وهو ما يشكل خطرًا استراتيجيًا على أي تنظيم يستمد قوته من الولاء والانضباط والإيمان بالقضية.

وبذلك، فإن ما يجري داخل أنفاق غزة اليوم لا يتعلق فقط بالبعد العسكري أو التكتيكي، بل يمتد إلى سؤال أعمق: كيف تُدار حياة البشر تحت ضغط حرب طويلة لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات؟ وهل تستطيع القيادة الحفاظ على مشروعيتها إذا شعر مقاتلوها بأنهم تُركوا وحدهم في لحظة الخطر؟

شاركها.