أمد/ في مشهد يلخص المفارقة الأخلاقية في عالم اليوم، تعبر البحر الأبيض المتوسط سفن محملة بالغذاء والدواء وأحلام الحرية، يقودها ناشطون متضامنون من أوروبا ومن مختلف أنحاء العالم، بينهم أمريكيون وكنديون، جاؤوا لينضموا إلى هذه الأساطيل الدولية، لا بقرار من حكوماتهم بل بقرار من ضمائرهم. هؤلاء الناس يقطعون آلاف الأميال متحدّين القوانين والحصار والخطر ليصلوا إلى غزة المحاصرة، بينما يقف العرب الأقرب دمًا ودينًا وجغرافيا مكتوفي الأيدي، أو يمارسون انقسامًا يجرح فلسطين أكثر مما يداويها. وبينما تتسابق حكومات وشعوب أمريكا اللاتينية على تقديم مواقف عملية ودعم سياسي وإنساني حقيقي، تبدو الموانئ العربية صامتة والأنظمة متواطئة أو عاجزة. هذه ليست مجرد مقارنة؛ إنها فضيحة أخلاقية مدوية.

 

الشعوب الغربية تتقدم… الحكومات تتواطأ

 

رغم كل الدعم العسكري والدبلوماسي الذي تقدمه الحكومات الغربية للاحتلال الإسرائيلي، هناك ضمير حي في شوارع الغرب يرفض التواطؤ. منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، خرجت في لندن وباريس وبرلين وستوكهولم وإيرلندا آلاف المظاهرات المؤيدة لفلسطين. ملايين من البشر حملوا صور أطفال غزة ورفعوا شعارات تطالب بوقف الحرب ورفع الحصار. في الوقت ذاته، تشكلت قوافل بحرية مثل “أسطول الحرية” وغيره، تضم نشطاء أوروبيين ومتضامنين من أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وآسيا، جمعوا التبرعات وحملوا الإمدادات الطبية والغذائية بجهود شعبية بحتة. هؤلاء الناشطون لا يملكون جيوشاً ولا أسلحة، لكنهم يملكون إرادة إنسانية صلبة تجعلهم أكثر جرأة من حكوماتهم.

 

هذه المبادرات لم تأت من فراغ؛ إنها ثمرة عقود من التضامن الشعبي مع القضية الفلسطينية في الجامعات، والنقابات، وحركات المجتمع المدني، وحملات المقاطعة (BDS) التي صارت تؤرق الاحتلال وتكشف وجهه العنصري. المفارقة أن هذه المبادرات تواجه التضييق والقمع من حكوماتها، لكنها تواصل طريقها رغم المنع والتهديد، وكأن هؤلاء النشطاء يدركون أنهم يقفون على الجانب الصحيح من التاريخ.

 

أمريكا اللاتينية: نموذج رسمي وشعبي متقدم

 

على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، تكتب دول أمريكا اللاتينية حكومات وشعوباً صفحة مشرقة في سجل التضامن مع فلسطين. كولومبيا أعلنت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الاحتلال احتجاجاً على المجازر. بوليفيا استدعت سفيرها ووصفت ما يجري في غزة بأنه “جريمة ضد الإنسانية”. تشيلي والبرازيل أصدرتا بيانات حادة وانتقدتا السياسات الإسرائيلية علناً، بل وتقدمت بعض هذه الدول بمقترحات في الأمم المتحدة للضغط على الاحتلال.

 

أما الشعوب اللاتينية، فهي منذ عقود تحمل فلسطين في وجدانها كقضية تحرر من استعمار استيطاني يشبه ما عانته هي نفسها في تاريخها. في بوينس آيرس وريو دي جانيرو وبوغوتا، خرجت مظاهرات ضخمة ترفع العلم الفلسطيني وتطالب بوقف الحرب، ويشارك فيها سياسيون وفنانون ونقابيون. هذه ليست مجرد مظاهر رمزية؛ إنها مواقف تترجم إلى ضغط سياسي حقيقي وتضع حكومات تلك الدول في موقع الفعل، وليس التفرج.

 

هذا النموذج اللاتيني، شعبياً ورسمياً، يفضح بوضوح الخذلان العربي. فالدول الأقرب جغرافياً وثقافياً هي الأبعد عن الموقف المبدئي. والأنظمة التي ترفع شعارات العروبة والإسلام عاجزة حتى عن فتح معابرها أو إرسال سفنها، بينما دول بعيدة آلاف الكيلومترات تقدّم ما هو أكثر من الشجب.

 

الخذلان العربي: جرح فوق الجرح

 

في المقابل، تبدو الصورة العربية قاتمة. الحكومات العربية تتنافس في عقد المؤتمرات والقمم التي تنتهي ببيانات لا تُسمن ولا تُغني من جوع. حتى المبادرات الشعبية، حين تخرج، تُقمع أو تُفرّغ من مضمونها أو تُحوَّل إلى منصات للتجاذب الداخلي والانقسام الفلسطيني. أو توظف مأساة غزة كورقة ابتزاز سياسي. والنتيجة أن الفلسطينيين، بدل أن يجدوا سنداً عربياً صادقاً، يجدون أنفسهم محاصرين من البحر ومن البر ومن العجز العربي.

 

هذا التخاذل العربي ليس قدراً محتوماً. إنه نتاج غياب إرادة سياسية وشعبية حقيقية للضغط على الأنظمة، ونتاج استسلام طويل لمعادلات دولية جعلت كثيراً من الحكومات العربية تخشى حتى إرسال قافلة بحرية أو شحنة دواء دون إذن. لكن ما يعجز عن تفسيره أي منطق هو أن يُترك المجال للنشطاء الأوروبيين والدوليين ليواجهوا الاحتلال في البحر، بينما الموانئ العربية صامتة.

 

رسالة السفن إلى العرب

 

السفن القادمة من أوروبا، المحملة بالناشطين والإغاثة، تحمل أكثر من الغذاء والدواء؛ إنها تحمل رسالة أخلاقية مدوية. تقول للعرب: نحن، البعيدون جغرافيًا، تجرأنا على مواجهة الحصار، بينما أنتم، الأقرب دمًا ودينًا ولغة، لم تتحركوا. هذه ليست رسالة عتاب فقط، بل رسالة إدانة تاريخية. فحين يتطوع طلاب جامعيون ونقابيون غربيون ويخاطرون بحياتهم في البحر، يفترض أن تكون الموانئ العربية ممتلئة بالسفن قبل أن تصل سفن التضامن من أقاصي الأرض.

 

إنها لحظة اختبار تاريخي للأمة العربية: هل تبقى متفرجة على مآسي غزة وتترك مهمة التضامن للشعوب الغربية وأمريكا اللاتينية؟ أم تتحول الشعوب العربية من متفرج إلى فاعل وتضغط على أنظمتها لكسر الحصار بالفعل لا بالقول؟

 

وحدة الفلسطينيين: الرد الأقوى على لعبة التفتيت

 

في وسط هذا المشهد، يبقى العامل الحاسم هو وحدة الفلسطينيين أنفسهم. التدخلات العربية في الشأن الفلسطيني كانت للأسف  عاملاً في تكريس الانقسام. اليوم، إذا كان الغرب واللاتين يقدمون سفن التضامن، فعلى الفلسطينيين أن يقدموا للعالم صورة الوحدة الوطنية. الوحدة الفلسطينية هي الرد الأقوى على لعبة التفتيت العربي والإسرائيلي معاً، وهي الطريق لاستعادة الدعم الحقيقي بدل التلاعب بالمأساة.

 

خاتمة: السفن القادمة من أوروبا إلى غزة ليست مجرد قوارب إغاثة؛ إنها مرايا تعكس عجز العرب وتواطؤ أنظمتهم. الشعوب الغربية واللاتينية أثبتت أن التضامن مع فلسطين ممكن وفعّال حتى في ظل القمع والتهديد. أما العرب، الأقرب والأولى، فما زالوا أسرى بيانات الشجب والانقسام.

 

إن التاريخ لن يرحم أحداً: لا الحكومات العربية التي تركت غزة تموت جوعاً تحت الحصار، ولا الشعوب العربية إذا بقيت متفرجة على مأساة أمتها. وفي المقابل، سيسجل التاريخ أسماء الناشطين الأوروبيين واللاتينيين الذين تحدوا البحر والحصار ليصلوا إلى غزة، وسيكتب أن العرب يوم الامتحان الأخلاقي كانوا غائبين.

 

إنها ساعة الحقيقة: إمّا أن تتحرك الأمة العربية لتكون جديرة بفلسطين، أو أن تبقى خارج مشهد الكرامة، ويكتب التاريخ أن التضامن الحقيقي جاء من أوروبا البعيدة وأمريكا اللاتينية، لا من الشرق القريب.

*ناشط وكاتب عربي فلسطيني عضو الأمانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام.  

شاركها.