الرجال الأكْفاء عماد الرسالات ومحور الإصلاح
يروي الإمام الحاكم في مستدركه من حديث زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: «تمنوا»، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدا وجوهرا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق. ثم قال عمر: «تمنوا»، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: «أتمنى لو أنها مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان».
رحم الله الفاروق الملهَم، لقد كان خبيرا بما تقوم به الحضارات، وبما تنهض به الرسالات، فالأمة كما تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، فهي أيضا تحتاج إلى الرؤوس المفكرة، والعقول الكبيرة، والعزائم القوية، فهي باختصار تحتاج إلى الرجال. إنك مهما أعددت من معامل سلاح، فإن تلك الأسلحة لا طائل منها إلا بالرجل المحارب، ومهما وضعت من مناهج تربوية، فلن يقوم المنهج التربوي إلا بالمعلم الذي يقوم بتدريسه، ومهما أنشأت من مشاريع، فلا بدّ لها من الرجل الغيور الذي يشرف على تنفيذها، فالقوة ليست بحدّ السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي.
يقول أبو الطيب المتنبي:
إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع
فلله در عمر ما أحكمه، فهو لم يتمن فضة ولا ذهبا، ولا لؤلؤا ولا جوهرا، ولكنه تمنى رجالا من الطراز الممتاز، تتفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء. فالرجال أعز من كل معدن مهما كان نفيسا، وأغلى من كل جوهر مهما كان ثمينا، فالرجل الكفء الصالح هو عماد الرسالات ومحور الإصلاح. ولذلك، فإن وجوده عزيز في دنيا الناس، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة”. عندما حاصر خالد بن الوليد (الحيرة)، طلب من أبي بكر مددا، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي، وقال: إنه لا يهزم جيش فيه أمثال القعقاع، وكان رضي الله عنه يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل. ولما طلب عمرو بن العاص المدد من عمر في فتح مصر، كتب إليه: أما بعد، فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف.
إن الرجولة لا تقاس بالسن المتقدمة، فليس كل من طَرَّ شاربه وطالت لحيته يعدّ في الرجال، فكم من شيخ في السبعين وقلبه في سن السابعة، يفرح بالتوافه، ويبكي على الحقير، فهو طفل صغير ولكنه ذو لحية وشوارب، وكم من غلام في مقتبل العمر، ولكنك ترى الرجولة المبكّرة في قوله وعمله وخُلقه. دخل غلام على خليفة أموي يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن، لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة.
الرجولة ليست ببسطة في الجسم، ولا بطول في القامة، ولا بقوة في البنية، فقد ذمّ البيان القرآني طائفة من الناس مع تحقق تلك الصفات فيهم: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم، كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم}، وفي الصحيح: “يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة”، اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}. كان عبد الله بن مسعود رجلا نحيفا نحيلا، فانكشفت ساقاه يوما، وكانتا دقيقتين هزيلتين، فضحك بعض الصحابة، فقال عليه الصلاة والسلام: “أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد”.
الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفاسفها، قوة تجعله كبيرا في صغره، غنيا في فقره، قويا في ضعفه، قوة تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه، يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته، ودينه، وأمته. لم تر الدنيا رجولة في أجلى صورها وأحلى معانيها، كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام ورباها الرسول الأعظم، رجال يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، لا يغريهم الوعد، ولا يلينهم الوعيد، لا يغرهم النصر، ولا تثنيهم الهزيمة.
* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية الجزائر1